هو رجل هادئ كعاصفة توشك على اقتلاع وتدمير كل ما يقابلها، عاصف كالنسيم الذى يجتاح الحقول فى الصباح الباكر فيغلفها بالضباب الكثيف انتقاما منها ومن هدوئها المريب، ما إن تجلس معه إلا وتبدأ مناقشة ما فى مسألة تخص الوطن وما عدا ذلك فهو أمر تافه لا يستحق الالتفات إليه، عرفته منذ ما يزيد عن خمس وثلاثين سنة، كان يحضر إلى القاهرة يوميا (وتحديدا إلى مقهى ريش) من مدينته طنطا، ثم يعود فى المساء، لم يكن له سكنا فى القاهرة كما أنه لم يكن يدفع ثمنا لركوب الدرجة الأولى فى القطارات فقد كان يعمل موظفا فى هيئة السكة الحديد، رغم حدته فلم نره فى عراك مع أحد، كان (ولم يزل) يحب الجميع ويحبه الجميع فقد كان على علاقة مودة مع جميع الكتاب والأدباء فى هذه السنوات التى كانت تموج بالاحتجاجات والتمرد، لكنه كان يستطيع دائما السيطرة على الكائن المتمرد بداخله كما لو كان هو نفسه شخصية قصصية قد خرجت لتوها من قصة قصيرة للكاتب العبقرى "تشيخوف".
عاش الكاتب الرائع "سعد الدين حسن" محترما لنفسه ولموهبته ومخلصا لكتابة القصة القصيرة طوال حياته ولم يتكالب على المسئولين السلطويين عن مؤسسات النشر الرسمية الذين نشروا لـ"كتاب" لا يستحق كل ما كتبوه ثمن حبر الطباعة الذى استخدموه لنشر "كتابات" أذناب المتسلطين على حركة النشر فى مصر، فصدر له أربعة مجموعات بدأت بـ" احترس " عن مجلة الرافعى سنة 1985 ثم " أول الجنة...أول الجحيم" عن هيئة قصور الثقافة سنة 1990 ثم "سيرة عزبة الجسر" عن مركز الحضارة العربية سنة 1998 ثم صدر له "وعد الحر" عن دار المدينة سنة 1999 وأخيرا أصدرت له دار نشر "ميريت" مجموعته الرائعة "عطر هارب".
سوف يبقى اختيار الكاتب أو الأديب للجنس الأدبى الذى يبدع فيه مرتبطا ارتباطا وثيقا بشخصية الكاتب أو الأديب نفسه، فاختيار الجنس الأدبى (قصيدة أو رواية أو قصة قصيرة) لا يأتى مجانيا بل يخضع تماما للتركية النفسية والوجدانية للكاتب أو الأديب وإذا طبقنا هذا المعيار على "سعد الدين حسن" فسوف نجد أن القصة القصيرة هى الجنس الأدبى الأمثل الملائم لتركيبته النفسية والشخصية، فالقصة القصيرة هى جنس أدبى يعنى فى جوهره بالسرد الحكائى النثرى الذى يأتى دائما أقصر من الرواية، والقصة القصيرة تعتنى دائما بتقديم حدث وحيد مكثف يستغرق مدة زمنية قصيرة ويقع فى مكان محدود يستطيع الكاتب أن يعطيه عمومية وشمولا للتعبير عن موقف أو جانب من جوانب الحياة، لا بد لسرد الحدث فى القصة القصيرة أن يكون مكثفا وصلبا دونما تفريعات تصل به للتشتت، وغالبا ما تكون القصة القصيرة معتنية بشخصية واحدة وإذا اعتنت بعدة شخصيات فسوف تكون هذه الشخصيات قريبة من بعضها يجمعها مكان واحد وزمان واحد تساعد على بلورة الحدث والوضع الإنسانى الذى يختار الكاتب التعبير عنه.
وإذا كانت الدراما فى القصة القصيرة تأتى دائما قوية وتمتلك حسا كبيرا من السخرية أو تدفقات شعورية ووجدانية مؤثرة فإن ذلك يأتى منسجما مع تركيبة "سعد الدين حسن" النفسية والوجدانية التى تدفعه للتخلص من قيود التقاليد الاجتماعية التى تكبل فرديته وتمنعه من الاحتفال دائما بألمه من أجل الآخرين، ولأن "سعد الدين حسن" يعتبر نفسه واحدا من ملايين المواطنين المغلوبين على أمرهم ولا يكف المتسلطون عن استغلالهم وقهرهم فكان لا بد وأن يحتفى كثيرا بكتابة القصة القصيرة التى تعنى دائما بالشخصيات المغمورة التى لا ترقى فى الواقع للعب دور البطولة بالرغم من أنهم يصارعون فى قلب الحياة وخضم الواقع حيث تعتنى القصة القصيرة بالدرجة الأولى بالحياة اليومية تاركة البطولات الوهمية والملاحم الخيالية والأسطورية للرواية.
فى "عطر هارب" القصة القصيرة التى حملتها المجموعة القصصية عنوانا لها والصادرة عن دار نشر "ميريت" يفاجئ "سعد الدين حسن" القارئ كمن يقدم له نفسه فى لوعة ليشترك القارئ معه فى ألمه الداخلى - قائلا: "فى قلبه يتبع هاجس صبوته وفى قلبه عطر نورانى، العطر يتضوع من سراج الجسد، وخرائطه الإيقاعية تنطق بقوة من نواظم موسيقية غامضة، جعل يستقطر من فيضها السائل تعويذة لقلبه، وحين اقترب من الموشومة بالسمرة والجمر، تسلل فى رقة جارحة إلى زخارفها المنمنمة مجذوبا لكنوز سحرها، وإذا بها تفر كطائر مذعورة مهرولة تجاه الخفى".
كان الكاتب والأديب والناقد الأدبى الأمريكى "إدجار آلان بو"، أول الكتاب الذين درسوا القصص القصيرة باعتبارها شكلا محددا ومستقلا بذاته من الأدب، وقد اعتنى "إدجار آلان بو" فى بعض كتاباته بالتأثيرات الدرامية ( مثل الخوف والمفاجأة) التى يمكن تحقيقها فى القصة القصيرة، ثم جاء كتاب "فلسفة القصة القصيرة" المنشور سنة 1901 الذى ألفه الناقد الأمريكى "براندر ماثيوس" متأثرا بأفكار"إدجار آلان بو"، ويعتبر النقاد هذا الكتاب أنه أول كتاب عن كتابة القصة القصيرة وهو كتاب شديد التأثير فى مجمل أفكار "سعد الدين حسن" عن القصة القصيرة التى أوصلته للتعبير عن الألم الإنسانى الذى يصطرع فى وجدانه ويريد لقارئه أن يشاركه فيه، لذلك فقد جاءت بعض قصصه قصيرة جدا فى دفقات وجدانية مشبعة بالألم ولأنه لم ينجب فالألم يظهر جليا وواضحا ومؤلما فى قصته القصيرة جدا "بنات":
"البنات الصغيرات على الجسر يمرحن، يرفعن جلابيبهن الطويلة بين أسنانهن وحجلن، من بين أقدامهن ذرات التراب تتطاير، أعطس، بين الجسر والترعة أقف جوار هذه التويجة البيضاء الممتلئ قلبها بغبار البنات وأعطس، ... لو كانت لك ابنة تحجل معهن الآن ...، وظللت أحدق فيهن وأعطس".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة