فى السابع من إبريل 2009، ألقى الرئيس الأمريكى باراك أوباما خطاباً أمام البرلمان التركى حول علاقة الولايات المتحدة مع العالم الإسلامى، وفى الخامس من يونيو 2009، وقف أوباما خطيباً أمام الآلاف من العلماء والمفكرين والسياسيين، فى القاعة الكبرى لجامعة القاهرة، موجهاً خطاباً جديداً للعالم الإسلامى، ومع الكلمات الأولى لخطابه أبهر الحاضرين، عندما بدأ بقوله "السلام عليكم"، وأسقطت تحية الإسلام والآيات القرآنية التى استشهد بها، وتأكيده أن "واجبه الدفاع عن صورة الإسلام" وتلويحه بإسلام والده "حسين"، الحواجز بينه وبين الجمهور الذى تناسى أنه أمام رئيس أمريكى، وكان لكلماته تأثير سحرى على مستمعيه وهو ما عبروا عنه فى التصفيق المتكرر والذى وصل إلى (42) مرة خلال الخطاب، وتكرر المشهد فى التاسع من نوفمبر 2010، عندما وقف أوباما خطيباً فى العالم الإسلامى، ولكن هذه المرة فى العاصمة الإندونيسية، جاركرتا.
وفى المرات الثلاث التى وجه فيها أوباما خطاباته، ارتدى ثوب القدوة مقدما نفسه كنموذج للتعايش وتحسين صورة أمريكا التى يمثلها، عبر استشهاده بكونه أول رئيس أمريكى من أصول إفريقية، وابن مسيحى لوالد مسلم، وتجربة عيشه فى إندونيسيا ككبرى الدول الإسلامية فى مناخ من الحرية الدينية. كما تقمص شخصية المعلم، مُذكراً المسلمين بتاريخهم فى الأندلس وإنجازاتهم العلمية، وتأثيرهم فى الحضارات الأخرى، وحقيقة دينهم الذى يدعو للتعايش والتسامح، داعيا إياهم إلى التعاون فى إطار أرضية مشتركة من القيم والمبادئ الإنسانية التى تحث عليها كل الأديان وفى مقدمتها الإسلام.
لقد حاول "أوباما" فى خطاباته ألاَّ تكون موجهة إلى شعوب الدول الإسلامية، ولكن أيضاً إلى أى مسلم يعيش فى أى بلد حتى وإن كانت غير إسلامية، لكسب قلوب وعقول كل المسلمين فى كل مكان، وهو ما نجح فيه أوباما على المستوى الظاهرى، أى على مستوى لغة الخطاب وتأثيره النفسى والإعلامى، وهذا ما يحسب لأوباما.
أما ما يحسب علينا شعوب الدول العربية والإسلامية، وبطبيعة الحال النظم السياسية التى تحكمنا، هو المبالغة فى الرهان على الأطراف الخارجية، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، لتحل لها أزماتها ومشكلاتها الداخلية منها والخارجية، وأصبحت هذه الشعوب تنتظر كل أربع سنوات نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية وتهتم بها أكثر من اهتمامها بالانتخابات التى تجرى فى دولها، وكأن القادم من واشنطن سيخلص العالم من آلامه ومآسيه، وليس هذا القادم مصدرا لهذه الآلام وتلك المآسى منذ بدأ فى الانفتاح على العالم وتنبى سياسة الحلول محل الإمبراطوريات القادمة، كبريطانيا وفرنسا وأخيراً الاتحاد السوفيتى، ويحاول صبغ العالم بثقافته وهويته ومبادئه، لتكون أمريكى الهوى والتفكير، بل والمأكل والمشرب والملبس.
ولسنا هنا فى محل انتقاد الولايات المتحدة وسياستها الخارجية، أو سياسة القائمين على إدارة هذه السياسة، ولكن النقد موجه بالأساس لنظمنا وشعوبنا التى تخسر رهاناتها مع كل انتخابات، وتعاود الرهان من جديد، ووصل بها الأمر إلى توجيه الشكر وبالغ العرفان والتقدير للرئيس أوباما على أنه لم يتبن مغامرات خارجية تنال من أمنها واستقرارها، كسلفه بوش، نعم.. هكذا وصل بنا الحال!!.
ولم يعد أوباما، بكلامه المعسول وخطبه الرنانة، محلاً للنقد رغم أنه حتى الآن لم يقدم جديداً داخلياً أو خارجياً، بدليل فشله فى تسوية معظم القضايا الخارجية العالقة من أفغانستان إلى العراق إلى إيران إلى فلسطين، وغيرها، وفشله فى إدارة القضايا الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، والتى جاءت نتائج الانتخابات النيابية النصفية الأخيرة، لتؤكد هذا الفشل، فقد خسر الحزب الديمقراطى، بقيادة أوباما، أغلبيته فى مجلس النواب، وفاز الجمهوريون بتلك الأغلبية.
وهذا الفوز وإن كان يعنى رفضاً شعبياً لسياسات أوباما، من جانب، فإنه يعنى من جانب آخر تنامى تيارات المتشددين التى يمثلها الجمهوريون، داخل المجتمع الأمريكى، وهو ما يحمل رسالة ضمنية لكل دول وشعوب العالم، وفى مقدمتها الشعوب العربية والإسلامية، التى عانت الأمرين من توجهات وسياسات الجمهوريين حلال إدارة بوش، بأن رهاناتكم خاسرة، ومصالحنا هى التى تحركنا، وسياساتنا، نحن من يحددها بما يتفق وأمننا القومى، وبأولويات علاقتنا الخارجية، وأن تعويلكم علينا لتسوية أزماتكم وحل مشكلاتكم، لن يزيدكم إلا ذلاً وخنوعاً واستسلاماً، سواء كان من يحكمنا هو بوش أم أوباما، أم من يأتى بعده.
إن الرئيس أوباما، ومقارنة بسلفه، إذا كان قد أظهر قدراً من التفهم لقضايا المسلمين، فإن لهذا التفهم حدوداً ومحددات، فلا ينبغى أن ننسى أن أوباما هو ابن شرعى للثقافة والتراث الأمريكى، وللمؤسسات السياسية والدستورية والاجتماعية والثقافية الأمريكية، والتى لها دور فاعل فى بلورة السياسة الخارجية لأى رئيس يأتى على رأس النظام الأمريكى، وإذا كان من الممكن أن يُحسِن أوباما من صورة العرب والمسلمين لدى الشعب الأمريكى، أو من صورة الولايات المتحدة لدى الدول العربية والإسلامية، فإنه يبقى محدود الإمكانات فى حل المشاكل العميقة الجذور التى تؤثر فى علاقات الطرفين، وهو ما يجب أن نتفهمه جميعاً، شعوباً وحكومات، مهما تعددت الخطابات، حتى لا نظل نخسر كل الرهانات، ونصل لمرحلة نخسر فيها أنفسنا، إن لم نكن قد خسرناها بعد!!