نعم أصبحت كرة القدم "صناعة" فى كل العالم، تدر الربح على الشعوب وتساهم فى تشغيل ملايين الأيدى العاملة وقامت عليها الكثير من المؤسسات الصناعية والاستثمارية الضخمة، سواء فى صنع أدوات اللعبة من كرات وشباك وأدوات تدريب وتقوية الأجساد، كما انتشرت مصانع النسيج والملابس الرياضية، وبناء المئات من الاستادات والمستشفيات لعلاج إصابات الملاعب وغير هذا الكثير الكثير من احتياجات كرة القدم من مراكز تدريب المدربين والأطباء وجيوش وكلاء اللاعبين.
وتبع ذلك كله شركات الإعلانات التى راحت تضخ ملايين الملايين فى هذا المجال بداية من إعلانات المشروبات الغازية ومساحيق التجميل وانتهاء بإعلانات المقويات الجنسية والمواد الغذائية والسيارات الفارهة والسيارات الاقتصادية، وانتشرت جحافل مقدمى البرامج فى غابة الفضائيات وجيوش المحللين الكرويين، ليجنوا الأموال الطائلة من عالم الاحتراف الذى تخطى احتراف الكرة للاعبين إلى احتراف مقدمى البرامج والمحللين بالرغم من أن بعض المستفيدين منه فى مصر المحروسة يسمونه الاغتراف ربما ليبعدوا الشبهة عن أنفسهم رغم احترافهم أو اغترافهم.
لذلك فإن خلط المفاهيم أصبح مشروعا فى مجال كرة القدم الذى أصبح مجالا حيويا لاستثمار رؤوس الأموال الضخمة لكبار المستثمرين فى العالم حيث تساهم هذه الاستثمارات الضخمة فى رفاهية الشعوب التى تحسن العمل فى هذا المجال، والتى وضعت نظاما خاصا لمجال كرة القدم أطلقوا عليه "نظام الاحتراف" الذى يقوده وينظمه اتحاد الكرة الدولى "فيفا" الذى يطاول نفوذه الآن نفوذ "هيئة الأمم المتحدة" نفسها، حيث ساهم "نظام الاحتراف" هذا فى الرفاهية والارتقاء ببعض القيم الخلقية والعلمية لهذه الشعوب التى تحسن العمل فى هذا المجال على عكس ما يحدث حاليا فى مصر المحروسة، لدرجة أننى سمعت ورأيت واحدا من كبار النقاد الرياضيين الذين لا أستطيع أن أخفى إعجابى الشديد بوقاره وحسن أسلوبه ورجاحة أكثر آرائه، سمعته ورأيته على شاشة التليفزيون يقول بالحرف الواحد: "ليس عندنا نظام احتراف ولكن الذى عندنا هو نظام انحراف أو نظام اغتراف" مع أن هذا "النظام" هو السبب الوحيد لوجود مثل هذا البرنامج الرياضى الذى كان يتحدث فيه هذا الرجل الوقور بل كان هذا "النظام" هو السبب الوحيد لولادة نفس القناة الفضائية وغيرها من الفضائيات التى ولدت وانتشرت بفضل هذا "النظام" وأًصبحت (هذه البرامج وهذه الفضائيات) موردا ضخما للملايين التى تتدفق على أرصدة القائمين عليها.
وكان من جراء ذلك كله أن راح "البعض" يوغل فى خلط المفاهيم ليبرر بها تصرفاته الجيدة أو حتى تصرفاته المعيبة، وساد فى الفترة الأخيرة خلطا شديدا فى مفهوم "الاستثمار" فى مجال كرة القدم المصرية عن مفهوم "الاستثمار" فى المجالات المختلفة الأخرى، فعندما يعلن أحد رجال الأعمال أنه يدين ناديه بمبلغ 42 مليون جنيه مع أنه أنفق فعليا على هذا النادى مبلغ 60 مليون جنيه، غير أنه قد اعتبر نفسه أنه قد تبرع بمبلغ 18 مليون جنيه من جملة المبلغ الذى أنفقه وهو 60 مليون جنيه ويتبقى مبلغ الـ 42 مليون جنيه ديونا له عند ناديه، فيما يقول خصوم رجل الأعمال أنه لم ينفق مليما واحدا على النادى لأن كل هذه الملايين التى أنفقها ليست تبرعات بل ديونا على النادى واجبة السداد له، وبحسبة بسيطة يستطيع أى مستثمر حتى ولو كان محدود الذكاء أو قليل الحظ يستطيع أن يقول لك إن مبلغ 60 مليون جنيه كرأسمال لا يدر دخلا أقل من 20 مليون جنيه سنويا (30% من رأس المال)..
وبهذه الحسبة البسيطة سوف نرى أن رجل الأعمال الذى يهاجمه خصومه يدفع سنويا مبلغ 20 مليون جنيه لناديه المحبوب، لكن المسألة هنا أن الـ 60 مليون جنيه هذه لم يتم استثمارها فيما يفيد بل ذهبت كلها لجيوب لاعبى كرة القدم وكان من الممكن أن تكون لهذه الأموال الضخمة فائدة حتى لو كان اللاعبون قد أخذوها (وهم أخذوها بالفعل) لو تم بيع هؤلاء اللاعبين بمبالغ مالية تحقق هامش ربح، لكن للأسف الشديد فقد استولى هؤلاء اللاعبين على هذه الأموال بدون أن يحققوا شيئا للنادى سواء عندما كانوا يلعبون أو حتى بعد بيعهم بالخسارة الضخمة لكل هذه الأموال.
وكما كان مصطلح "الاستثمار فى كرة القدم" فى مصر المحروسة خادعا فإن مصطلحا آخر يتم الترويج له هذه الأيام قد بدأ ينتشر بمفهوم مصرى له وهذا المصطلح ليس خادعا (فى مفهومه المصرى) فحسب بل مضللا ومبتذلا أيضا، هذا المصطلح الذى زيفوه فى مصر هو مصطلح "التبرع للأندية"، مع أن التبرع للأندية من المشجعين الفقراء أمر محترم وبالغ الاحترام لو تم استخدام هذه التبرعات التى سوف يتم جمعها من مشجعى كرة القدم الفقراء (والغالبية كلهم فقراء) فى استثمارات مفيدة تعود على النادى بالخير وبالتالى فسوف يجنى المشجع الفقير الذى تبرع بثمن رغيف الخبز بالخير أيضا على فريقه الذى يشجعه، فلو تم استخدام تبرعات الفقراء هذه فى إنشاء مصنع للملابس الشبابية ومنها الملابس الرياضية بالطبع أو بناء مدارس خاصة بأسعار متهاودة أو حتى بناء ملاعب أو قرية رياضية يتم تأجيرها للفرق الرياضية لإعداد فرق الأندية التى لا تملك مثل هذه الملاعب أو مشاريع استثمارية ذات فائدة أو مشروع كبير ذا دخل يدره على النادى كفندق أو حتى حمامات سباحة فى الصحراء يتم تأجيرها لمشجعى الأندية بأجور زهيدة أو مشاريع لسكن الشباب تدر دخلا كبيرا، لو تم ذلك فإن التبرع يصبح فضيلة لفائدة النادى والمشجع الفقير فى نفس الوقت، مشجعو كرة القدم لكل الأندية هم من الفقراء وتبرع أى منهم سوف يكون بثمن رغيف الخبز ومع ذلك فهذا يمتعه ويشبعه روحيا لأنه يساهم بثمن طعامه لرفعة ناديه الذى يشجعه وينتمى روحيا له، ولذلك فسوف يسهل خداعه ويتبرع عن طيب خاطر حتى وإن كان يعرف أن تبرعه هذا سوف يذهب لجيوب لاعبى الكرة كما ذهبت ملايين رجل الأعمال قبل ذلك، ويعرف أن تبرعه سوف يذهب لبناء فيلا لأحد لاعبى الكرة وهو يعانى الأمرين فى المكان الضيق الخانق الذى يعيش فيه، وهنا تكمن المأساة التى يمكن تلخيصها فى استغلال طيبة وإخلاص وعشق هذا المشجع الفقير تحت مسمى "التبرع"، بل زاد الطين بلة أن يخرج أحد مسئولى الأندية التى تنادى بالتبرع ليرد على منتقديه فى الفضائيات قائلا : "لماذا يلوموننا على مطالبتنا جمهور نادينا بالتبرع حتى نستطيع إكمال المبلغ المطلوب لأحد اللاعبين حتى يوقع لنادينا بدلا من توقيعه للنادى المنافس"..
إلى هنا والأمر رغم خطئه يمكن بلعه، أما مالا يمكن بلعه هو أن يقول هذا المسئول الوقور: "لماذا يلومون علينا لمناداتنا بالتبرع ؟ ألم تناد أم كلثوم بالتبرع؟" هنا تكمن درجة عالية من الخلط المتعمد والتدليس المستفز والرغبة فى استغلال البسطاء الفقراء من المشجعين، فأم كلثوم لم تكن تنادى بالتبرع لدفع مخصصات لاعبى الكرة، أم كلثوم كانت تنادى بالتبرع من أجل المجهود الحربى المقدس عن الوطن (عن مصر التى يلوكون اسمها فى كل مناسبة وبدون مناسبة)، أم كلثوم كانت تنادى بالتبرع لتدبير رغيف الخبز للمقاتل المصرى على خط النار، وبثمن طلقة الرصاص، ودانة المدفع، ووقود الطائرة التى تحمى الوطن، بين "تبرع أم كلثوم" وبين "تبرع المسئول" بون شاسع وفرق رهيب، ارحموا الناس يرحمكم الله.
• كاتب وروائى مصرى .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة