بداية.. فأنا أتصور أن الجميع يدركون تماماً خطورة ما نتحدث عنه وأهميته، نظراً لانتشار التيارات السلفية، والتى أعنى بها تحديداً ما يطلق عليها المدارس السلفية، التى يمكن أن نتعرف على ملامحها وتمايزاتها من خلال هذه المناقشة.. أنا لست بصدد الحوار حول إغلاق الفضائيات السلفية أو حول خطورة التيارات السلفية مثلاً، بقدر الاقتراب والمعرفة لهذه الملامح، التى هى دائماً ما تفرق بين السلفيين وغيرهم من التنظيمات الإسلامية المتعددة كى نتحاور فيها على مهل وبهدوء.
أول هذه الملامح اعتبار أن مقدار الاتصال بالتراث هو المقدار الذى يحدد أقرب الجماعات إلى الحق، وعلى هذا فقد درجت التقاليد على أن تنظر إلى التراث بأنه مجموعة من النصوص المتداولة التى تركها السلف ولكن هذا التراث كان يجب أن يفهم على أنه مرادف للتصور ونموذج من نماذج الوجود والتطور الإنسانى، حيث إن التراث حقيقة أكثر تعقيداً من أن نتصور أنه يبدأ وينتهى عند مجموعة من أمهات كتب الفكر، وكذلك فإن إحياء التراث لا يعنى مجرد بعض أمهات الكتب والفقه، حيث تلغى الحركة السلفية عنصر الزمان، وكان من المفترض أن تسعى لإدارة التراث فى إطار أكثر اتساعاً أو بمعنى إطار الحركة الجماعية الإنسانية، حيث يعبر النص عن التقاء بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، وهذا ما ستلحظه جيداً ببساطة وأنت تستمع إلى الفتاوى فى الفضائيات السلفية أو من شيخ سلفى فى مصلى أو زاوية يلقى فيها دروسه، وهذه هى أهم تمايزات تلك الظاهرة السلفية التى تتخذ من النصوص دليلاً وملاذاً، بمعنى أنهم عبروا عنه بأن تعتقد ثم تستدل مع أن المنهج السليم أن تستدل ثم تعتقد، ولن تجد أى نص عندهم هو الكفيل بأن يثبت صواب الفكرة، بل التراث وحده ونقولات المرويات القديمة التى دائماً ما تكون مقنعة لشباب العمل الإسلامى، وهذه هى السنة التى سارت عليها التيارات السلفية.
لذا سنلحظ بالتالى أنهم يطرحون القضايا التى عفى عليها، على سبيل المثال لا الحصر قضايا الخلافات بين الفرق المختلفة كالمعتزلة والقدرية والأشاعرة.. إلخ، وافتعال المعارك فى مسائل وسع الخلاف فيها الأمة كمسألة النقاب وعمل المرأة والموسيقى.. بل وتعدى الطرح إلى فرض هذه القضايا بالإكراه، ولهذه الأسباب رأينا من يقيس الحكم فى واقعه المعاش على فتوى صادرة من فقيه منذ مئات السنين، وكم رأينا من يحيلك إلى كتاب فقهى من القرون الأولى ليدلل على صحة ما صنع، وهذا بلا شك يعبر عن خلل، لأن أقوال الفقهاء تعبر عن فهمهم لنصوص الشريعة، وهناك فارق بين قدسية النص واحتمالية خطأ فهم الفقيه للنص وهو ما يرتب نتيجة هامة، وهى أن أقوال الفقهاء مع عظيم مكانتهم يمكن أن تحتمل الخطأ فى بعضها، وفهم النصوص ومقاصد الشريعة لا يصح تنزيلها على الواقع إلا ممن يملك أهلية الفتوى الشرعية، والعجيب أن الجماعات الإسلامية بما فيها من السلفيين بها قلة ممن وصلت إلى هذه المرتبة التى تستطيع النظر فى مدى توفر شروط وأسباب وانتفاء موانع هذا الحكم فى الواقع وما يترتب عليه من مصالح ومفاسد، بالإضافة إلى أن أكثر المسائل اليوم تحتاج إلى اجتهاد معاصر.
لقد أنتج ذلك ذهنية تحريمية وآراءً متشددة، ابتداءً بالديمقراطية الكافرة وانتهاءً بملاعق الأكل التى كتب فيها أكبر مشايخ السلفيين وأستاذهم مقبل بن هادى الوادعى رسالة تحت عنوان "الصواعق فى تحريم الملاعق".
وللعلم فإن مقبل بن هادى الوادعى تتلمذت على يديه السلفية المصرية بكل أطيافها ومشاربها، وبالطبع كل ذلك يؤدى إلى عدم الإدراك للظروف والمتغيرات التى تطرأ على المجتمع، وهذا نلحظه فى ملابسهم وطريقة كلامهم واستدلالاتهم، وبالطبع كل ذلك يؤدى لخلل فى التعامل وعدم فهم للتطورات التى طرأت على المجتمع، حيث إننا فى عصر العولمة والإنترنت والمركبات الفضائية التى وصلت المريخ والعالم الذى أصبح كقرية واحدة، فخلق مشكلات اقتصادية واجتماعية جديدة كالزواج العرفى والمسيار والمشكلات السياسية المعقدة وهذا ما يفرض علينا ألا نقف فى أماكن لا نراوحها ونفكر بعقلية الأمس البعيدة وكأننا نقود سيارة ننظر إلى إطارها الخلفى تاركين الإطار الأمامى يصطدم بجدار الواقع المرير والمستقبل الغامض.
التشكيلات السلفية هكذا وقعت بين التهويل والتهوين وأصبحوا أسرى لفكر تقليدى لا ينظر إلى العصر وتياراته ومشكلاته ويقف ساكناً أمام التطورات التى تحدث فى المجتمع، سواء كان سببها الفساد أو غيرها، وإذا رجعنا إلى التاريخ الإسلامى لوجدنا كيف فرض عمر المكوس وحدد فترة غياب الجند عن زوجاتهم وأوقف سهم المؤلفة قلوبهم وأوقف حد السرقة عام الرمادة.. إنه كان يراقب التطورات التى كانت تلحق بالمجتمع الإسلامى والضرورات التى تفرض نفسها عليه وكان عمر رضى الله عنه يتأسى بالنبى صلى الله عليه وسلم الذى كان يهتم بكل المجتمع حوله ويعرف كل أسراره وعاداته ويراقب تطوراته.
والعلماء ساروا على نفس الهدى، ولذا أجازوا تغيير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف والأحوال، والنظر للمجتمع وتطوراته من زوايا متعددة وبمناظير لا يشوبها غبش من دلائل الاعتدال والتوازن.. زوايا تعتبر المجتمع مسلما خالصا لا مجتمعا جاهليا طالما أن شعائر الإسلام تقام وأحكام الإسلام ما زالت ترعى والجماهير لا تزال مؤمنة وكلمة الإسلام هى المحركة.
لم تنتهِ ملامح التشكيلات السلفية عند هذا الحد ولكنها تتعدى ذلك بكثير جداً وقد يختلف معى الكثيرون أو قد يتفقون ولكننا فى النهاية سنستكمل المسيرة فى مناقشة هذه الملامح لكى نستخلص العبر ونستفيد من تجارب النجاح ونتوقى جوانب الفشل والانهيار والتراجع للأمة، ونعرف إلى أى مدى استطعنا أن ندرس تجاربنا مع ذاتنا ونراجعها، ونصدر تقييمات حقيقية لمسيرة التشكيلات الإسلامية بكل ما فيها من جوانب النجاح ونواحى الإخفاق.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة