◄◄أدعو ولو لمرة واحدة أن يتوقف الجدل حول ما إذا كان مشروع التوريث قائما أم لا، لأننا ببساطة استهلكنا فى تفاصيله ومعاركه الساذجة طاقات هائلة، فيما تركنا وراء ظهورنا السياسات الحاكمة للبلد، والاستراتيجيات الوطنية التى ينبغى أن نتحاور حولها بجدية.
ماذا يحدث لو اطمأن قلبك أنت لهذا التأكيد الجازم الذى أعلنه جمال مبارك بأنه لا يسعى وراء مصالح شخصية مباشرة من نشاطه السياسى داخل الحزب أو من مشاركته فى العمل العام؟
ماذا يحدث لو قررنا جميعا أن نصدق ما قاله جمال خلال حواره مع الإعلامى خيرى رمضان فى برنامج مصر النهارده الأسبوع الماضى، واعتبرنا أن تصريحات الأمين العام المساعد وأمين السياسات بالحزب الوطنى هى آخر كلام يمكن أن نتحاكى به فيما بيننا، فى الملف المزعج المسمى (مشروع التوريث)؟
أنا أدعوك أن تصدق ما قاله جمال، بل أدعو هؤلاء الأفاضل والأساتذة، فى تيارات المعارضة المختلفة وفصائل القوى الوطنية المتعددة -الذين فرضوا مشروع التوريث على الأجندة السياسية المصرية خلال السنوات الخمس الماضية- أن يصدقوا ما قاله أمين السياسات، حتى وإن فرضوا ذلك على أنفسهم وعقولهم بعنف، فمن مصلحتنا جميعا أن يتوقف الحوار حول هذا الملف المقيت حتى نتفرغ للحوار حول السياسات لا الأشخاص، وحول الأفعال الحقيقية على الأرض لا النوايا التى تحجبها الصدور.
أدعو ولو لمرة واحدة أن يتوقف الجدل حول ما إذا كان هذا المشروع قائما أم لا، لأننا ببساطة استهلكنا فى تفاصيله ومعاركه الساذجة طاقات هائلة، فيما تركنا وراء ظهورنا السياسات الحاكمة للبلد، والإستراتيجيات الوطنية التى ينبغى أن نتحاور حولها بجدية وإخلاص، اختزلنا المشهد السياسى -فى بلد بحجم مصر- فى قضية لم تخرج عن جلسات النميمة، ناقشنا الهزل بدلا من الجد، وغرقنا فى الأقاويل المرسلة بدلا من الهموم الحقيقية، وبدلا من أن نتبادل الحوار تقاذفنا بالشتائم، وبدلا من أن نتقاسم الأفكار تقاسمنا رذائل الغمز واللمز كل يوم وكل ليلة.
نحن يجب أن نصدق الآن حتى ولو كان تصديقا صوريا، لأن ما يواجهه هذا البلد من تحديات أهم كثيرا من شخص جمال مبارك، بل اسمح لى أن أقول لك إنه أهم أيضا مما يمكن أن تلعبه مؤسسة الرئاسة وحدها أو يلعبه شخص الرئيس أيا كانت صفته أو طبيعته أو أحلامه لمستقبل مصر، المسألة أعظم بكثير من الأشخاص لأنها تخص حركة مجتمع بكامله نحو تحقيق غاياته، ومن ثم فإن اختصار المعارك السياسية فى المناصب والمواقع السياسية يسفّه من مشروع مصر الوطنى، ويساهم فى تعطيله، ويوجه الصراع السياسى إلى معارك حول الكراسى لا معارك حول الأدوار والطموحات والغايات الوطنية.
لم يعد هناك ترف النميمة السياسية فى هذا البلد، الطاقة الوطنية الآن يجب أن توجه للقوانين والمشروعات والحوار حول أولويات التنمية السياسية والاقتصادية، فحتى الرئيس لا يستطيع أن يحرك البلد نحو النمو وحده، بل يتقاسم معه ذلك كل الأحزاب السياسية والقوى الوطنية ومؤسسات المجتمع المدنى ومؤسسات الإعلام وطاقم الوزراء التنفيذيين، وحتى صغار الموظفين فى المحافظات ومجالس المدن والأحياء. الرئيس، أى رئيس، أيا كانت كاريزمته أو قوته أو نفوذه السياسى أو شرعيته التاريخية أو الديمقراطية، لا يستطيع أن يحكم وحده، ولا يستطيع أن يطور البلد بمفرده، الرئيس، أى رئيس، يحتاج إلى الناس ويحتاج إلى القوى الأخرى لتدفع العجلة إلى الأمام، ومن ثم فإن تقزيم المعركة الوطنية فى منصب الرئيس أو فى مشروع محله جلسات النميمة، مثل مشروع التوريث، يزلزل الحركة الوطنية ويؤدى إلى تعثر حركة البلد نحو ما نصبو إليه بالفعل على الصعيد السياسى والصعيد التنموى.
ملف التوريث كان كضربات الملاكم تحت الحزام وليس فوق الحزام، ليس له رصيد من النقاط، ويؤدى إلى التعاطف مع الطرف الثانى الذى يتلقى الضربات، ونحن نريد اليوم لهذا البلد أن تكون الملاكمة السياسية فيه فوق الحزام لا تحته، أن يكون الجدال حول التشريعات وحول القرارات وحول الأفكار وحول ما نخطوه فعلا على الأرض، لا أن يكون الجدل كله حول المؤامرات وحول التربيطات وحول ما تسره الأنفس أو تطمح إليه القلوب فى الخفاء.
تعالوا نصدق جمال مبارك، فلا يوجد ما هو أكثر برهانا على شىء إلا اعتراف صاحبه، وها هو الرجل يجزم، قبل اثنى عشر شهرا من الانتخابات الرئاسية، أنه لا يحمل طموحا شخصيا، فى إشارة حقيقية وجازمة إلى منصب الرئاسة، الآن يمكن للقوى السياسية أن تتلقف هذا التصريح وتجعله حجة على قائله، وتدير ظهرها للنميمة وتطور من أدوات المواجهة السياسية حتى نصل إلى إصلاح حقيقى للأوضاع السياسية والتنموية فى البلد.
قد يبادر أحد المتحمسين الثائرين الغاضبين ويقول: إن السياسة لا تعرف هذا النوع من الوعود القاطعة، وأنه لا يجوز لرجل يعمل فى مجال السياسة أن يزعم أنه بلا طموح أكبر فى الإدارة، أو أنه زاهد فى المناصب العليا، فهذا الطرح على عكس الطبيعة البشرية الطامحة لما هو أعلى، وقد يقول قائل أيضا إن هذا التصريح مصنوع بمهارة ليناسب هذا التوقيت قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وأن جمال قد يبدل كلامه مرة أخرى حين تحين اللحظة الفاصلة!
لكننى أقول أيضا إنه لا يجوز أن نتعامل مع هذا التصريح كأن لم يكن، وإن كانت النوايا خالصة لوجه مصر فلنؤجل الحوار إذن لحين سطوع هذه اللحظة الحاسمة، فنحن نعيش لحظة تحيطنا فيها التحديات من بين أيدينا ومن خلفنا، فثمار التنمية غائبة عن الطبقات الأكثر فقرا فى مصر، والساحة السياسية مضطربة البنيان لا تسير على هدى أو على صراط منير، والأوضاع الإقليمية مرتبكة إلى الحد الذى تحيا فيه السودان على شبح الانفصال، ولا تتحرك خطا التسوية السياسية فى مساراتها الصحيحة على الصعيد الفلسطينى، ويتهددنا العطش فى علاقاتنا مع دول حوض النيل، وتتعثر بنا خطى التنمية الزراعية والأمن الغذائى، إلى الحد الذى ترتبك فيه أقواتنا إذا شب حريق فى مزارع القمح فى روسيا!!
نحن نعيش داخل وطن متعثر، والأوطان المتعثرة تصير النميمة فيها محرمة، والخفاء فيها إثما، والعلن فيها هو النجاة الحقيقية، ومن ثم علينا أن نرفع من شأن تصريحات جمال مبارك التى تضع نواياه فى العلن، ونتعامل مع هذه العلنية بالجدية الممكنة، ونهجر حوارات النميمة والمؤامرات الخفية وراء ظهورنا، ونتحاور عن مصر ومستقبلها، لا عن كراسيها والجالسين فوق عروشها.