فى عام 1926 حاول الفنان يوسف وهبى تجسيد شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام فى السينما بالتعاون مع المخرج وداد عرفى وحينها واجه انتقادات شديدة من علماء الأزهر قدم يوسف وهبى اعتذارا علنيا عن فكرته خاصة بعد تهديد الملك فؤاد بحرمانه من الجنسية المصرية، ليستمر الجدل حول تجسيد شخصيات الأنبياء والصحابة منذ ذلك الحين وحتى الآن خاصة بعد عرض المسلسل الإيرانى "يوسف الصديق" على بعض القنوات العربية والمصرية، وكان القائمون على هذا المسلسل أكثر حظا من الراحل يوسف وهبى حيث ساعد عرض المسلسل وحجم إنتاجه الضخم وحبكته الفنية على خلق حالة من الانبهار لدى الكثيرين بل وأدت هذه الحالة إلى تغير وجهة نظر البعض فى مسألة تحريم تجسيد الأنبياء فى الأعمال الدرامية ووجدوا فى هذا التجسيد وسيلة للتعلم ومعرفة بعض الأحداث التاريخية وسيرة الرسل خاصة وأن معظم الناس يستهوون متابعة الدراما أكثر بكثير من القراءة.
ورغم أننى لم أتابع المسلسل إلا أن حالة الجدل التى نتجت عن عرضه ونسبة المشاهدة الكبيرة التى حظى بها تنذر بأننا على أعتاب مرحلة عدم التقيد بكل المسلمات والفتاوى التى أصدرتها المجامع الفقهية بشأن تجسيد الأنبياء والصحابة فى الأعمال الدرامية خاصة مع تسابق شركات الإنتاج الفنى على الاقتداء بما حققه المسلسل الإيرانى من نجاح، وهو ما جعلنى أتساءل: إذا كان الكثيرون قد أعجبوا بالمسلسل وغيروا الكثير من آرائهم السابقة بسببه فهل نقبل أن يحدث نفس الشىء مع سيرة سيدنا محمد "ص" وهل نقبل أن يقوم فنان بتجسيده على الشاشة أو المسرح؟.
إننا مأمورون بالإيمان بكل الأنبياء والرسل وإجلالهم بقدر إجلالنا لنبينا الكريم محمد "ص" كما نرفض الإساءة لهم بقدر رفضنا الإساءة لمحمد عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام، لذلك سأتحدث عن مدى قبولنا لتجسيد شخصية سيدنا محمد "ص" فى عمل درامى، رجعت لعدد من الدراسات والفتاوى الصادرة بهذا الشأن خاصة أنه كان محل اهتمام الأزهر وأغلب المجامع الفقهية التى ترفض تجسيد الأنبياء والرسل والصحابة وآل البيت، ولكننى رأيت من وجهة نظرى المتواضعة أن مسألة تجسيد الأنبياء تختلف كثيرا عن تجسيد الصحابة لما للأنبياء والرسل من ذاتية وخصوصية عن سائر البشر، فأى ممثل يمكن أن يجسد شخصية سيدنا محمد "ص" مهما كانت درجة تفوقه وقدرته على التمثيل والمحاكاة؟، وإذا كانت أفعال النبى "ص" وأقواله جزء من الشريعة فهل نعتبر أن أفعال وأقوال الممثل الذى يؤدى دور النبى جزءً من شريعتنا؟ وهل نأخذ عنه مناسكنا كما نأخذها عن الرسول "ص"؟ فالممثل الذى سيتقمص شخصية النبى الكريم، ويقوم بحركات قولية وفعلية زاعماً ومتصورا أنها حركات للنبى بالطبع لن يصل إلى جزء ولو ضئيل من صفاته وصورته وأفعاله وأقواله "ص" وبذلك يكون الممثل قد وقع فى المحظور بالكذب على النبى وبتضليل المشاهدين حتى وإن كان عن غير قصد بنقل أفعال وأقوال لا تتطابق مع ما فعله "ص"، وهنا نذكر قوله "ص" "من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، ليفتح هذا الباب مجالا للطعن فى الأنبياء والإساءة إليهم ويهدد العقيدة نفسها خاصة إذا خضع العمل الفنى لمتطلبات السوق الفنى من محاولات الإثارة والتشويق وعدم الالتزام بالدقة التاريخية.. وكان من أهم الأسباب التى طرحتها المجامع الفقهية لتحريم تجسيد شخصية سيدنا محمد "ص" المخالفة لحكمة الله فى منع شياطين الجن من التمثل به طبقًا للحديث النبوى: «من رآنى فى المنام فقد رآنى، فإن الشيطان لا يتمثل بى» فالحكمة فى هذا المنع صيانة شخصية رسولنا عليه الصلاة والسلام من أن تكون محل عبث من أى مخلوق سواء من الجن أو الإنس ليصبح تجسيده "ص" انتهاكا لهذه الحكمة، وبررت دار الإفتاء رفضها للتجسيد بقولها «إن عصمةَ الله لأنبيائه ورسله من أن يتمثل بهم شيطان مانعة من أن يمثل شخصياتهم إنسان" وبالتالى يحرم فى حق سائر الأنبياء والمرسلين ما يحرم فى حق النبى صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، ورغم ذلك فلا يجب أن نقلل من أهمية الاستفادة من التطور العلمى وفى أشكال التأثير والدعوة التى يمكن أن تتحقق عن طريق الدراما خاصة مع استغلال الغرب لهذه لوسائل فى الإساءة للأنبياء والرسل، وليس معنى منع تجسيد الأنبياء والرسل ألا نستفيد من الدراما فى التعريف بحياة الأنبياء وسيرتهم وأخلاقهم وذلك باتباع التقنيات الفنية المعهودة فى إدارة القصة مع عدم ظهور بطلها عن طريق الحكى وهو أمر ليس بجديد وأكبر مثال له هو رائعة عبد الحميد جودة السحار "محمد رسول الله " ذلك المسلسل الذى تناول حياة الأنبياء من إبراهيم وحتى سيدنا محمد "ص" ورائعة طه حسين "على هامش السيرة" وكلاهما علامتين من أبرز الأعمال الدرامية الدينية التى تناولت حياة الرسل دون تجسيد أى منهم، أما فيما يتعلق بتجسيد شخصيات الصحابة فنجد أن العلماء والفقهاء قد اختلفوا فى تحديد مفهوم الصحابى وبالتالى نجد اختلافات بين الدول والمجامع الفقهية فى تحديد الصحابة الممنوع تجسيد شخصياتهم وإن كان هناك شبه إجماع على منع تجسيد الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة وآل البيت، وهو أيضا ما اعترض عليه بعض العلماء مؤكدين أن المبشرين بالجنة تزيد أعدادهم عن الألف بإضافة أهل بدر وأصحاب بيعة الرضوان وفى حين تم تجسيد شخصيات بعض الصحابة فى الأعمال الدرامية القديمة مثل شخصية بلال مؤذن الرسول وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، إلا أن بعض المجامع والدول ترفض تجسيد هذه الشخصيات الآن.
كما منع مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عرض المسلسل التليفزيونى "بدر الكبرى" تجسيد شخصية حمزة بن عبد المطلب عم الرسول "ص"، ورغم هذا المنع فقد حقق فيلم الرسالة لمنتجه الراحل مصطفى العقاد ما لم يحققه كثير من الكتب والسير التى تتناول حياة الصحابة وقدم للغرب صورة مختلفة عن الصورة التى ترسخ فى أذهانهم عن الإسلام والمسلمين وأكبر دليل على ذلك أنه بعد أحداث 11 سبتمبر بيعت 100 ألف نسخة من الفيلم للقنوات الأميركية لرغبة الأمريكان فى معرفة الإسلام ففضل الكثيرون منهم شراء الأفلام التى كان على رأسها فيلم الرسالة وهو ما يستلزم إعادة النظر فى مسألة تجسيد الصحابة وإمكانية الاستفادة من سيرتهم بما يخدم الإسلام ويرد على ادعاءات الغرب الذى يستغل الدراما كأحد الوسائل للإساءة للإسلام، وإذا كان تجسيد الأنبياء والرسل أمرا محفوفا بالمخاطر الشرعية نظرا لخصوصيتهم وخطورة هذا التجسيد على العقائد إلا أن تجسيد الصحابة يمكن أن يعاد النظر فيه بما يتماشى مع الاجتهاد المعاصر وبوضع كافة الضوابط التاريخية والفنية التى تتسق مع مكانتهم وتقديرهم وبما يقدم صورة الإسلام الصحيحة فى مواجهة محاولات الإساءة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة