اليوم الثانى والعشرين من نوفمبر 2010، والباقى من الزمن 48 يوما فقط، عن إجراء الاستفتاء الشكلى، حول مصير جنوب السودان، أو لنقل على إعلان قيام دولة جديدة فى جنوب السودان، قد تكون دولة "جنوب السودان"، أو دولة "السودان الجديد"، أو أى اسم آخر قد يختاره حكامها، بما يباعد بينهم وبين السودان القديم، اسما وفعلاً.
والاستفتاء شكلى، لأن كل الأمور أصبحت محسومة، ومن يطالع المواقع الرسمية، للحركة الشعبية لتحرير السودان، وعشرات المواقع الأخرى المرتبطة بها، أو البعيدة عنها، أو حتى المواقع الرسمية للحكومة السودانية والحكومات العربية، يتأكد تماماً أننا بالفعل أمام دولة جديدة، بدأت تستكمل هياكلها المؤسسية والتنظيمية والإدارية، بل وتتنازع من اليوم على حدودها الرسمية، ويعلن قادتها عن فتح سفارة هنا وأخرى هناك، وما يوم التاسع من يناير 2011، إلا يوم الإشهار الرسمى، وكأننا أمام حفل زفاف يستعد العروسان عدة سنوات استعداداً لليوم الموعود!!.
ويا له من يوم، ويا لها من وعود، ستفتح أبواب النيران على الجميع ولن يستثنى أحد شرقاً أو غرباً، شمالاً، أو جنوباً.
وكما كانت عملية غزو العراق 2003، فتحاً لبوابة من الجحيم ما زالت نيرانها تضطرم، وتزلزل بين الحين والآخر جنبات العراق الداخلية، ومحيطه الإقليمى، وستبقى كذلك لسنوات إن لم يكن لعقود، فستكون كذلك الدولة الجديدة فى الجنوب السودانى، ثم تستكمل الحلقة مع الدولة القادمة فى الغرب السودانى، حيث إقليم دارفور الآن، وبطبيعة الحال لا نستبعد دولة جديدة فى الجنوب المصرى، وفى الشرق السعودى، وفى الجنوب اليمنى، وفى الشمال العراقى، وفى الجنوب العراقى، وفقا لسياسة "تفتيت المُفتت"، و"تجزئة المُجزأ" التى رفعت لواءها القوى الكبرى، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، منذ عقود، وسارعت فى مخططات تنفيذها، بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001.
وقبل أن يهاجمنى البعض، أقول إننى أؤمن بـ "نظرية المؤامرة"، نعم أؤمن بها، ولكن فى المقابل أؤمن بنظرية "الغباء السياسى"، التى تقوم فى أحد فرضياتها على أن النظام السياسى، أياً كانت توجهاتها، وأياً كانت هويته، يعرف ما يُدبر له علناً، وما يُحاك له سراً، ورغم ذلك يتجاهله عمداً وكأن الأمر لا يعنيه، فكل ما يهم قادة هذا النظام أن تظل الكراسى التى يجلسون عليها ثابتة، ويأتى ولاة العهد ليكملوا المسيرة، سواء كان النظام "ملكياً"، أم "جمهورياً"، فهم فى نظمنا العربية سواء.. !!.
نعم يدرك حكامنا وقادتنا ما يدبر لهم، ولكنهم لا يتحركون، نعم ندرك ويدرك الجميع الأخطار الهائلة التى يمكن أن تنجم على الأمن القومى العربى بل والإسلامى، نتيجة قيام دولة جديدة فى جنوب السودان، ولكن لا حراك، بل إن بعض الدول العربية بدأت فى إرسال المعونات وحجز الأماكن التى ستقيم فيها سفاراتها فى الجنوب السودانى، وبدأت بعض الأقلام تتحدث عن عضوية الدولة الجديدة فى جامعة الدول العربية، وكأن المشرحة العربية، أقصد الجامعة، فى حاجة لمزيد من القتلى.
نعم يدركون أن الدولة الجديدة، تخالف المواثيق القارية التى تعارفت عليها القارة الأفريقية منذ تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية، وأكد عليها ميثاق الاتحاد الأفريقى الجديد، ولكن الإرادة السياسية للولايات المتحدة أكبر من تلك المواثيق، وبالتالى لا بد أن يخضع الجميع ويلتزم.
نعم يدركون أن الدولة الجديدة ستفتح المجال أمام عشرات المطالب والحركات الانفصالية فى معظم، إن لم يكن كل الدول العربية، وأنها من الوجهة الإسلامية، تستهدف القضاء على الهوية الإسلامية والثقافة والحضارة الإسلامية فى الجنوب السودانى، ولكن كل ذلك لا يعنيهم، طالما أن الخطر لم يقترب بعد من كراسيهم، أو هكذا يظنون!!.
إن الدولة الجديدة، تعنى اقتطاع حوالى 700 ألف كم2 من مساحة السودان البالغة 2.5 مليون كم2 تقريبا، أى ما يعادل 28% من المساحة الكلية للبلاد، وبحدود تمتد إلى 2000 كيلومتر تقريبا مع خمس دول أفريقية هى إثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطى، وتشكل المراعى منها 40% من والأراضى الزراعية 30% بينما تشغل الغابات الطبيعية 23% والسطوح المائية 7% من جملة المساحة.
وهذه الأرقام لها دلالاتها السياسية والاقتصادية، فبجانب أنها تعنى قطع السودان عن محيطه الأفريقي، كونه كان يرتبط بحدود جغرافية مع خمس دول من الجنوب، تم حرمانه منها، فيكفى أن ننظر فى إحصاءات توزيع الأراضى فى الجنوب لنعرف حجم الخسائر الاقتصادية التى سيعانى منها، بجانب الموارد المائية، أنهاراً وبحيرات، والتى تشكل منابع رئيسة لنهر النيل، بما يفرض مزيداً من القيود على السودان ثم مصر، أمام مطالبة الدولة الجديدة بحصتها من هذه المياه، وبالتالى إعادة النظر فى كل المواثيق التى تحكم توزيع هذه المياه.
نعم يدرك حكامنا وقادتنا ما يدبر لهم ولنا، ولكنهم، لا يسمعون إلا ما يحلو لهم، وصدق الشاعر، "لقد أسمعت إذ ناديت حياًً .. ولكن لا حياة لمن تنادى"، أما نحن فلا نملك إلا النداء والدعاء إما بأن يبعث الله فيهم الحياة، أو يرزقنا بمن يسمعون ويعقلون ويدركون .. وهو نعم المجيب..!!.