فى أبريل 1998، وافق مجلس النواب الأمريكى على مشروع قانون "الحرية من الاضطهاد الدينى"، ودخل القانون حيز التنفيذ فى أكتوبر من نفس العام، وفى سبتمبر من العام التالى صدر التقرير السنوى الأول عن وزارة الخارجية الأمريكية المعنى بالحريات الدينية، تطبيقاً لنصوص القانون.
وقد جاء القانون متوافقاً فى بنيته العامة مع الوثيقة الصادرة تحت عنوان "بيان لإثارة الضمير"، والذى صدر عن الرابطة الوطنية الأمريكية للإنجيليين فى يناير 1996، وذلك من حيث إنشاء مكتب للاضطهاد الدينى، وتوصيف الاضطهاد الدينى، وتحديد المناطق التى يحدث فيها الاضطهاد الدينى، والتأكيد على أن الكاثوليك والإنجيليين "البروتستانت" هم المضطهدون فى المقام الأول، والتأكيد على الدور الحكومى الرسمى فى مواجهة الاضطهاد الدينى، وتقديم اقتراحات عملية لمواجهة عمليات الاضطهاد الدينى، وتحديد الأدوار التى يجب أن يمارسها كل من الرئيس ووزارة الخارجية والسفارات لوقف الاضطهاد الدينى، ووقف المساعدات للدول التى يحدث بها اضطهاد دينى.
والملاحظ أنه عند مناقشة مشروع القانون، لم تكن هناك اختلافات جوهرية بين المشاركين فى المناقشة، سواء من أعضاء الكونجرس أو الإدارة الأمريكية أو المتحمسين للقانون من أعضاء الهيئات المتنوعة، والذين شاركوا فى لجان الاستماع بالرأى أو المشورة، أو أرسلوا خطابات تتضمن بعض الأفكار أو الملاحظات، فالجميع اتفق على ضرورة الاهتمام بالقضية، وإذا كانت وزارة الخارجية الأمريكية قد تحفظت على مشروع القانون فى صيغته الأولى، إلا أن تحفظاتها كانت تتمحور حول أن هناك بعض البلدان سوف تتأثر من هذا المشروع، وإن ذلك قد يزيد من الاضطهاد الدينى، كما أنه قد يضر بالسياسة الخارجية الأمريكية فى بعض الأحيان.
وإذا كان القانون قد وضع قضية الحرية الدينية فى صلب قضايا حقوق الإنسان وجعل من قضية الاضطهاد الدينى قضية عالمية، فإنه من الناحية العملية، وفى الوقت الذى يرفع فيه مكتب رصد الاضطهاد الدينى التابع مباشرة للرئيس الأمريكى، تقاريره إلى الكونجرس عن الدول التى تمارس الاضطهاد الدينى ودرجة الاضطهاد الذى تمارسه تمهيدا لفرض عقوبات عليها، فإنه فى المقابل يعطى للرئيس استثناءات من تطبيق القانون بدعوى المصلحة الوطنية والأمن القومى، وتجد الإدارة الأمريكية نفسها أمام ضغوط من الشركات والبنوك الأمريكية التى ستتعرض مصالحها للخطر بسبب العقوبات، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الإدارة تجد نفسها فى حرج أمام دول صديقة وحليفة تنطبق عليها مواد القانون وأمام دول مستهدفة تعتبر تطبيق التشريع الأمريكى تدخلا فى شئونها الداخلية، علاوة على أن التدخل الأمريكى قد يشعل الصراع داخل الدول التى تتهم بالاضطهاد ويؤجج العداء ضد أمريكا، والمحصلة النهائية أن التشريع الأمريكى لن يطبق إلا بطريقة انتقائية أو لخدمة مصالح الولايات المتحدة.
ومن مظاهر العبثية فى إصدار القانون أن نص القانون لم يهتم بذكر المواثيق الدولية ذات الصلة، كما أن القانون، كانت المرجعية الفكرية العليا له هى التراث الأمريكى للحرية الدينية، والذى تعامل معه على أنه يمثل المرجعية العليا للمواثيق الدولية، كما يقرر أن الفاعل الرئيسى الذى من شأنه أن يتابع ويرصد ويراقب الأوضاع، ويقرر ما يجب بشأنها، هو الولايات المتحدة، ووفقاً للقوانين الأمريكية، واعتبار هذه الأمور، وغيرها، حقاً مكتسباً، مع إهمال المظلة الدولية بالكامل.
وإذا كان هذا عن العبثية الأمريكية فى إصدار القانون، وفرضه على العالم، والتحرك وفقاً له ولكن بما يتفق ومصالحها، لأن ما يصدر وفق القانون من تقارير، هى فى التوصيف النهائى أداة من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية، تستخدمها وقتما تشاء وكيفما تشاء، وضد من تشاء، وتتجاهلها أيضا وقتما تشاء وكيفما تشاء، وضد من تشاء، كما أن هذه التقارير- حال عدم استخدامهاـ تمثل فى جانب منها مخزونا استراتيجيا يتم تحريكه واستخدامه عندما ترى الإدارة الأمريكية أن بعض الدول، التى تسمى الحليفة أو الصديقة أو دول الاعتدال، تحاول التحرك ولو هامشياً أو تتجرأ بالاعتراض على قرارات الرئيس حامى الحمى ومصدر الأمن والاستقرار.
أما عن العبثية السياسية العربية فى التعاطى مع هذا القرار، فمظاهرها أكثر تردياً وسوءاً، ومن ذلك فأننى وبالمصادفة شاهدت اتصالا مباشراً على الهواء بين إحدى القنوات الفضائية والمتحدث باسم الخارجية المصرية، ومن بين ما قاله ـ رداً على سؤال حول موقف مصر من تقرير الحريات الدينية 2010، وما جاء به من انتقاداتـ "إننا لن نرد على هذه الانتقادات، لأننا لا نعترف بالأساس بهذا التقرير، ولا بحق الجهة التى أصدرته"، وأضاف "لذلك لن أتحدث عن مضمونه".
الكلام جيد، ولكن للأسف ليس فيه احترام لعقولنا، لأن التقرير يتم إعداده بعد جولات ميدانية تقوم بها وفود من الخارجية الأمريكية، ومن السفارات الأمريكية فى الدول المعنية، وهذه الوفود لا تتحرك فى الخفاء ولكن بأذون رسمية من وزارات خارجية هذه الدول، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه تجرى لقاءات رسمية على أعلى المستويات بين المسئولين فى هذه الوزارات وبين اللجان والوفود المعنية بالتقرير.
ومن ناحية ثالثة، إذا كان الأمر والتقرير لا يعنى الخارجية المصرية، فلماذا أعلنت المؤسسات الدينية الرسمية المصرية- الإسلامية والمسيحية- عن تشكيل لجنة للرد على ما جاء فى التقرير، أم أن هذه اللجنة ليس لها علاقة بالخارجية؟ التى يُفترض أنها المتحدث الرسمى باسم كل المؤسسات الداخلية فى مواجهة الخارج؟
إننا نرفض بأى حال من الأحوال، أى تدخل خارجى فى شئوننا الداخلية، ولكن لماذا نعطى الفرصة لأى طرف أن يتدخل من الأساس؟ لماذا لا نقف على السلبيات والانتهاكات ونعالجها من جذورها قبل أن تتفاقم وتأتى على الأخضر واليابس فى هذا الوطن؟
إن السلبيات والانتهاكات لا تنال من طرف دون آخر داخل الوطن، لا توجه ضد "البدو" على حساب "الحضر"، أو ضد "النوبيين" لحساب "الشماليين"، أو ضد "المسلمين" لحساب "الأقباط"، أو العكس فى كل هذه المعادلات والثنائيات التخريبية، ولكنها تصيب الجميع، فالنظام عندما يفقد قدرته على السيطرة ويحاول فرض هيمنته وتسلطه يضرب فى كل الاتجاهات دون مراعاة لأى اعتبارات دينية أو مذهبية أو طائفية أو حتى أخلاقية، فكل ما يهم هو استقرار أركان النظام حتى لو كانت تقوم على فساد.