العصابات لا تعمل بالجريمة فقط، العصابات الكبرى أعمالها كبرى وتتم غالبا عبر واجهات مشروعة، بينما البواطن هم أعلم بأمورها، فى البواطن.. تجارة سلاح ومخدرات وغسيل أموال وشبكات دعارة وتهريب ماس ومناقصات تجارية كبرى عابرة للقارات، الواجهات المشروعة غالبا لا تكفى لحماية نشاط العصابات أو الشلل، تلك الأموال الدائرة فى الباطن فى حاجة إلى غطاء سياسى يحميها، ولذلك يحدث هذا التداخل الذى لا تفهمه بين السلطة ورجال الأعمال أصحاب السمعة المشبوهة، الذى تجمعهم المصلحة والمنفعة فيتولد عن جماعهم هذا عصابات وليدة سرعان ماتتوحش وتتحكم .. هذا بالطبع يقدم لك تفسيرا عن مصير أراضى الدولة التى تباع برخص التراب والمناقصات التجارية التى يتم التلاعب فيها عينى عينك، والاحتكارات التى تعانى منها مصر ورجال الأعمال الذى يعلو نجمهم فجأة ويهبط إلى سابع أرض فى لحظة، ويفسر لك أيضا صمت الحكومة عن تلك الأمور التى قد تبدو واضحة للكل حتى لمن لايقرأ سوى بالعدسة المكبرة، ويشرح لك أيضا سر وجود رجال أعمال يعملون لمصلحة تجارتهم داخل أروقة السلطة ودهاليز الصالونات السياسية.
هناك تجربة شهيرة فى جزيرة "باليرمو" الإيطالية تلك الجزيرة التى نزلت عليها عدالة السماء حينما أحرز مجدى عبد الغنى هدف التعادل مع هولندا فى كأس العالم 1990، تجربة عن تداخل المافيا مع السلطة عن ذلك التعاون الذى لا ينتهى بين أصحاب المال وأصحاب النفوذ ويكون الناتج عنه الفساد ولا شئ غيره، الفساد يا عزيزى الذى لا يحمل أى ملامح واضحة ولا يشبه الآخرون ولا يمتلك «ندبة» أو ضربة مطواة فى وجهه تستطيع من خلالها أن تشير إليها وتقول هذا هو! ولكنه بارع فى توليف نفسه مع التربة التى يعيش فيها.. عيبه الوحيد أن رجاله وجنوده المخلصين من السهل أن تعرفهم بسيماهم.
ومشكلته الوحيدة فى صعوبة صيده فهو مثل الفأر الشقى تراه بعينك ولكن صعب أن تصنع له المصيدة التى تصطاده خاصة إذا تضامن الفساد مع السياسة أو بمعنى أصح عاش فى حمايتها.
وإذا كنا فى مصر فى هذه المرحلة قد فقدنا الأمل فى مواجهة التضامن بين الفساد السياسى والمالى والذى ظهر بقوة فى «يفط» القماش التى ملأ بها رجال الأعمال وأصحاب المال الشوارع من أجل الدعوة للبقاء على أهل الفساد السياسى حتى تترعرع أموالهم وتنمو فى حمايتهم.. إذا كان اليأس بالفعل قد تمكن منك وأصابك فى مقتل فتعال معى قد أعالجك وأبعث بعضًا من الأمل فى نفسك من خلال تلك الروشتة البسيطة التى يطرحها كتاب «مقاومة المافيا» الذى شاركت فى نشره الوكالة الدولية للتنمية كنوع من التكريم لمؤلف الكتاب الإيطالى «ليولوكا أورلندى» الذى يحمل الكتاب جزءً كبيرًا يحكى عن سيرته الذاتية وعن تجربته فى مقاومة المافيا أو الفساد السياسى حينما كان يشغل منصب عمدة مدينة باليرمو عاصمة جزيرة صقلية الإيطالية.
ظهور هذا الكتاب الذى يحمل تجربة "باليرمو" فى الخروج من ظلام كهوف المافيا والقتل والإجرام والفساد السياسى إلى نور المجتمع الحضارى والمجتمع المدنى القوى اعتبره البعض فاتحة خير لأسلوب جديد فى مقاومة سلمية ضد الفساد السياسى بل وتعامل معه الكثيرون من أساتذة السياسة وعلوم الاجتماع على أنه نظرية وضعت أسسًا جديدة لإنشاء مجتمع مدنى قوى وقادر على مواجهة مافيا الفساد المالى والسياسى وتدميره وإعادة الاعتبار لقوة الناس الموجودة فى الشارع!!
وحتى لا تتخيل أن "أورلندى" كان يحارب شيئًا غير الموجود فى مصر فإن المافيا التى أعلن عليها الحرب فى باليرمو هى نفسها الموجودة فى مصر بدأت بحالة من الفساد المالى والإدارى وتوجهت لتتشابك علاقتها مع السلطة وتدخل تحت المظلة السياسية لتحمى أعمالها القذرة من قتل ونهب وغسيل أموال وتجارة فى المخدرات والسلاح، يحاول «أورلندو» فى كتابه أن يشرح كيف استطاعت المافيا أن تحول باليرمو إلى بلد مهدمة وكيف عبرت من خلال السياسة لتصل إلى عمق الحياة فى البلد لترعب الناس وتمنعهم من الخروج من منازلهم عند هبوط الليل فى محاولة ناجحة لإلغاء مظاهر الحياة المدنية حتى وصل الأمر لدرجة جعلت أحد الأدباء الفرنسيين يصف باليرمو بأنها «مدينة فيها براعم الحامض والبرتقال تفوح جثثا وتعبق برائحة الموت» كما شهدت تلك المرحلة أعدادًا كبيرة من الموتى تتساقط على الأرصفة برصاص رجال المافيا يفوق عدد قتلى الحروب فى فلسطين وأماكن الاضطراب فى العالم ثم ينتقل إلى عام 1992 ليتحدث عن اغتيال الجنرال «كارلو ألبرتو داكينزا» والصورة التى عرضتها الصحف لجثته وجثة زوجته وعبر عنها أهالى باليرمو فى ذلك الوقت بجملة واحدة تقول: "هنا دفنت آمال أهل باليرمو الشرفاء».
فى تلك اللحظة قرر «أورلندو» أن يقول لما يحدث «كفي» زى كفاية عندنا كده.. بس الفرق أنه خطط بشكل جيد ونجح بينما كفاية مازالت تحاول وتتعثر!!
وأدرك وقتها أن موت المافيا ونهايتها سيكون لحظة الخروج من حضن الحماية السياسية وكانت هذه الخطة العملية الأولى «لاحظ أن فى مصر يحدث العكس فكل يوم يمر يعنى المزيد من العشق بين السلطة والمال!!»
متزامنا مع تلك الخطة بدأ رحلة معنوية يحاول أن يثبت للناس فيها أن المافيا ليست بالقوة التى نخشاها بل هم مجموعة من الفاسدين تفضحهم أعمالهم، ونشر فى تلك الفترة الأصول اللغوية لكلمة المافيا ليؤكد للناس أنها تخلو من أى قوة ورجح أن الكلمة تعود لأصول عربية وتتكون من كلمتين «ما - في» أى «لا يوجد» واندمجا معا وأصبحا «مافيا» و أن الكلمة تعود إلى اسم قبيلة عربية غزت صقلية فى الماضي.. وبهذا فإن المؤلف أعاد الحق لأصحابه وأكد أننا نحن العرب رواد فى تصدير الفساد السياسى والمالى لمختلف بلاد العالم. كما حاول فى نفس الوقت أن يشرح للناس الفرق بين المافيا الأمريكية القوية التى استمدت قوتها من كونها تمتلك أصولاً وجذورًا لعائلات كبيرة وقوية مثل «غامينو وبونانو» وهذه العائلات استقوت فى الأرض وقت أن كانت الدولة ضعيفة!!
كانت هذه هى المرحلة الأولى التى بدأ منها «أورلندو» مقاومة الفساد السياسى وكانت أيضا بداية المخاطر التى بدأت تلاحقه مما دفع بعض الناس للاتفاق عليه ولقبوه «بالجثة المتحركة» نظرا للمخاطر ومحاولات الاغتيال التى كانت تلاحقه كل يوم تقريبا، هذا مايتعرض له أى ناشط سياسى يحاول فضح الفساد!
ولأنك عزيزى القارئ قد اعتدت فى مصر على الجبن والخوف من الفاسدين ومن سطوتهم ونفوذهم ولأنك غالبًا تخشى على نفسك من الهواء الطاير وتسمع كل من حولك يرددون نفس النغمة أنا مالى اشمعنى أنا اللى أسجن وأتعذب.. فإنى أعلم تماما أنك تعجب الآن وتقول ما الذى يدفع هذا المجنون للدخول فى حرب مع مافيا الفساد مع أنه عمدة للبلاد ومن الممكن أن يستفيد منهم ماديا وسلطويا بشكل كبير.. ولكن اسمح لى أن أقول إن هذا الرجل لم يكن طرطور مثل السادة الذين يحلو لهم تمثيل دور المعارضة عندنا فى مصر!
المهم أن «أورلندو» لم ينس أن يجيب عن هذا السؤال وذكر فى كتابه قائلا: هناك أشياء صغيرة ورطتنى فى محاربة المافيا أولها طبيبى المفضل الذى قتل برصاصة طائشة فى أحد الشوارع ووالدى الذى كان يخشى العمل بالسياسة لأن المافيا على حد قوله جعلت من كل سياسى مشبوهًا وقذرًا!!! والسبب الآخر أملى فى صقلية جديدة تثبت للعالم كله أن السياسة قد تكون مهنة شريفة تستطيع أن تتعامل مع الناس فى الشارع من أجل حياة أفضل، وأيضًا فى الوقت نفسه لم أنس شجاعة القاضيان «جيوفانى فاكلوني» و«بالوجور سيالموني» حين تحديا تهديدات الموت وطلبا محاكمة أعوان المافيا فى محاكمة كانت عالمية ولم أنس أشلاء جسديهما وهى تتدلى من السيارة المخففة التى كانا يركبان فيها.. ولكى تدرك أهمية ما ذكره المؤلف قارن بين ماذكره عمدة باليرمو وبين مايحدث فى مصر هو يتكلم عن صديقه الذى قتل ونحن هنا نبكى أصدقاؤنا الذين قتلت حياتهم داخل المعتقلات،هو يتكلم عن والده الذى يخشى العمل بالسياسية لأن السياسيون مشبهون، ونحن هنا نخشى العمل بالسياسية لأن السياسيون المشبهون يحرموننا من ذلك، هو يتلكم عن قضاة إنتفضوا وقالوا كلمة حق ماتوا فى سبيلها، ونحن هنا شاهدنا قضاة إنتفضوا من أجل كلمة حق وتم سحل واحد منهم فى الشارع بسببها.. الفرق الوحيد أن عمدة باليرمو تحرك لأنه يريد وطنا جديدا ونظيفا له مستقبل بينما نحن لم نتحرك بعد..ربما لأننا مازلنا لا نعرف مالذى نريده؟ أو أننا نعرف بس بنستعبط أو بنخاف!
نعود إلى الطريقة التى استخدمها «ليولوكا أورلندو» واعتبرها أساتذة السياسة فتحًا جديدًا فى التعامل مع الفساد السياسى وعودة مرة أخرى للاعتماد على الناس فى الشارع لتحصل هى بنفسها على حقوقها.
ويلاحظ أن «أورلندو» استند فى حربه ضد الفساد السياسى إلى قاعدتين هما القاعدة الحقوقية والقاعدة الثقافية بدأ من خلالهما حملة لتوعية الناس بحقوقهم السياسية والمدنية من خلال المسارح والكنائس ودعا فى حملته إلى ضرورة الحفاظ على الهوية والتمسك بالعلم والاحتفاظ بالماضى والإيمان بالمستقبل وفتح من خلال ذلك أربع جهات للمقاومة وهى الإعلام ومراكز الثقافة والمدارس وإقامة وضع طبيعى فى المدينة.. ورفع لحملته هذه شعارا يقول «أجل.. أجل.. التغيير ممكن» وبالفعل نجح «أورلندو» وأصبح التغيير حقيقة فى باليرمو.
وكان نجاح تلك الحملة فى تطهير باليرمو من الفساد السياسى خطوة واضحة سجلها التاريخ خاصة بعد أن حضر حفل توقيع اتفاق الأمم المتحدة ضمن الجريمة المنظمة أكثر من ألف مندوب عن 13 دولة وأكثر من 600 صحفى من مختلف دول العالم.. حضروا جميعا ليشهدوا انتصار المجتمع المدنى على سلطة الفساد وليروا أيضا بأعينهم انتصار المجتمع المدنى على قانون السكوت والصمت وفى نفس الوقت نجاة «الجثة المتحركة» من رصاص المافيا الذى كان يتساقط عليه كالمطر! ليعلن انتصار إرادة «أورلندو» ويجيب على سؤال: هل يمكن أن تكون السياسة مهنة شريفة؟.. بإجابة نعم!
ولكن يبقى السؤال الأخير .. هل يشهد عالمنا العربى أو المصرى محاولة كتلك المحاولة التى قام بها «ليولوكا أورلندو» ليثبت لنا نحن السبعين مليونًا على اعتبار أن الخمسة أو السبعة الباقين من المافيا أن السياسة من الممكن أن تكون مهنة شريفة وأننا نستحق أن نحيا حياة طبيعية بدون رصاصات الجوع التى تلقى بنا على أرصفة شوارع المحروسة أو كلابشات الحديد التى تلقى بنا مثل خلف أسوار السجون؟ لا أحد على يقين من ذلك لأننا مازلنا لا نؤمن بما قاله الكاتب التشيكى الرائع «ميلان كونديرا» انتصار الإنسان على السلطة هو انتصار للذاكرة على النسيان.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة