الصحافة.. الحقوق والواجبات.
حقوق الصحافة فى حرية الرأى.
وواجبات الصحافة تجاه مجتمعاتها. وأمور أخرى كفت عنها الأحداث الرياضية العالمية مؤخرا. والآن إلى مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالأمر.
أولا.. إلى أى مدى يمكن للصحافة أن تلاحق الفساد؟ هل يمكن للصحافة فى ملاحقتها للفساد أن تكون كالدبة التى قتلت صاحبها؟
هل يمكن لمن يحاول الإصلاح أن يضر ويؤذى بلده؟
هذا هو ما حدث فعلا من الصحافة الإنجليزية التى قتلت فرصة بلدها فى تنظيم نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2018.
ثانيا.. هل تنعم الصحافة بحرية الرأى والتعبير دون أن يكون هناك عقاب ؟
بكل تأكيد ما حدث من أعضاء الاتحاد الدولى لكرة القدم تجاه إنجلترا فى عملية التصويت على ملفها لتنظيم كأس العالم 2018 كان عقابا صارما ورادعا تجاه صحافتها الحرة والجريئة.
وحرية الصحافة مسموح بها فقط إذا لم تمس الكبار أو أصحاب القرار.
والآن إلى الموضوع.
.
إنجلترا مهد كرة القدم، ومؤسسة اللعبة الشعبية الأولى عالميا، ومؤلفة قوانينها الحالية، وصاحبة أكبر وأغلى وأشهر دورى فى العالم.. تقدمت بأفضل ملف للتنظيم بشهادة لجنة التفتيش التى دارت بين ملاعب ومدن الدول المتقدمة.. وهى روسيا التى نالت حق التنظيم فعلا، وهولندا وبلجيكا معا، وإسبانيا والبرتغال معا.
ولكن الصحافة الإنجليزية الساعية لضمان أنظف عمليات التصويت داخل الفيفا لصالح بلدها، قررت التفتيش عن الفساد بين أعضاء اللجنة التنفيذية.. وبدأت الحملة من صحيفة صنداى تايمز بأسلوب بالغ الحداثة والغرابة.
الصحيفة نظمت تمثيلية محبوكة، وذهبت مجموعة من رجالها للقاء أعضاء اللجنة التنفيذية فى بلادهم، تحت ستار تمثيلهم لأكبر شركات التسويق البريطانية المسؤولة عن دعم الملف الإنجليزى.
وعرض الصحفيون المتسترون على أعضاء الفيفا بطريقة ذكية وخبيثة هدايا ومساعدات مالية للجهات التى يريدونها.. ورفض عدد منهم الحوار أو الأمر فى هدوء، بينما سقط اثنان فى الهاوية، وهما النيجيرى أدامو أموس، والتاهيتى رينالد تيمارى.. ونجح الصحفيان فى تسجيل صوتى لهما أثناء مفاوضات تحديد المبالغ، وأماكن وأسلوب تسليمها.
وسرعان ما نشرت الصحيفة سبقها الخطير مع اتهامات بشعة ضد الفيفا ورجاله، ودعمت تحقيقها بالوثائق والتسجيلات.. بل أرسلت نسخة منها إلى الفيفا للتأكيد على سلامة أقوالها واتهاماتها.
صورة الفيفا اهتزت أمام العالم، ولم يجد رئيس الفيفا جوزيف بلاتر حلا سوى إحالة العضوين للتحقيق، وانتهى الأمر بادانتهما واستبعادهما من التصويت ومن منصبيهما نهائيا.. ونجحت الصحيفة فى تحقيق هدفها.. ولكن الغضب داخل الفيفا من الأمر كان عارما.. وتوعد الكثيرون لها فى التصويت.
قبل يومين فقط من التصويت أعلنت محطة بى بى سى البريطانية الشهيرة والعريقة، عن تقديم أكبر عدد من الملفات الصحيحة والمؤكدة عن الفساد فى الفيفا فى برنامجها التليفزيونى الأسبوعى بانوراما.. وشمل الأمر عددا كبيرا من أعضاء اللجنة التنفيذية بالفيفا، وهم الكاميرونى عيسى حياتو، والباراجوانى نيكولاس ليوز، والبرازيلى ريكاردو تيكسييرا والتريندادى جاك وارنر.. وأكد البرنامج ذائع الصيت وثائق عن حصول حياتو وليوز وتيكسييرا على رشاوى من شركة تسويق سويسرية اسمها أى إس إل من نهاية الثمانينيات وحتى مطلع الألفية.. وأن وارنر متورط غير مرة فى بيع تذاكره الخاصة لكأس العالم فى السوق السوداء.
الخبر صحيح بالوثائق، والاتهامات فظيعة، والأشخاص موجودون فى مناصبهم حتى الآن.. وكلهم مساهمون فى عمليات التصويت.
الفيفا عجز هذه المرة عن الرد سواء لضيق الوقت أو لأهمية ومكانة المتهمين ووفرة عددهم.. وأغلق بلاتر عينيه وأذنيه عن تلك الاتهامات وأعلن لاحقا أنها غير مؤكدة. وعندما جاء موعد التصويت خرجت إنجلترا من الجولة الأولى برصيد صوتين فقط أحدهما للإنجليزى جيف طومسون نائب رئيس اللجنة.. ولم يخف الباقون فى الفيفا سعادتهم لخسارتها وانتقامهم من صحافتها.
إذن.. الصحافة الإنجليزية المحترفة والبارعة مهنيا أضرت بلدها كثيرا. والشجاعة وحرية الرأى وملاحقة الفساد والتفتيش عن الدليل وتقديم الوثائق، لم يكن لها أى مكان فى مواجهة السلطة المستبدة أو الفاسدة فى الفيفا.
وأصبح السؤالان الآن فى إنجلترا مختلفين.
هل كان توقيت النشر خاطئا؟
هل تعجلت صنداى وبى بى سى فى نشر انفراداتهما الصحفية قبل عملية التصويت؟
وهل يجب أن تلاحق إنجلترا (الدولة والسلطة والمؤسسات والقضاء) الفيفا بكل قوة للقضاء على الفساد داخله?
وفى النهاية أصل إلى الملخص أو الرأى الشخصى.
صحيفة صنداى تايمز لم تخطئ على الإطلاق.. وبرنامج بانوراما فى بى بى سى لم يخطئ أيضا.. وكلاهما قدم أخبارا وقصصا حقيقية. لكن العيب الآن فى الزمن الردىء..
ليس فى مصر وحدها.. ولكن فى كل مكان فى العالم.