حتى التنجيم وقراءة الكف والفنجان، أسهل وأصدق وأدق كثيراً من كل التنبؤات السياسية التى طغى سحرها على موائد نميمة (الملل الكسول) قبل الانتخابات البرلمانية فى مصر.
فأنت تستطيع الآن أن تطمئن إلى (قارئات الودع) البدويات اللائى يصادفنك عند سفح الأهرام، أو على شواطئ الصيف فى جمصة ورأس البر، فيداعبن خيالك بالوهم الجامح حول المستقبل، أكثر من ثقتك فى هؤلاء السياسيين الذين يزعمون أنهم يسترقون السمع من السماوات العليا للسلطة، ثم تنهار نظرياتهم فى التحليل السياسى وأكاذيبهم فى ادعاء المعرفة عن مصر وناسها وحكامها، وسيناريوهات مستقبلها السياسى.
التنجيم أصدق أنباء من الكتب والمقالات والتحليلات الفارغة، أنت تتذكر أننا عشنا على أجواء تبشر بصفقة سياسية بين الحزب الوطنى وحزب الوفد، وصفقة أخرى بين الوطنى والتجمع، وتتذكر أيضاً أننا عشنا على تحليلات تتنبأ بإخلاء دوائر لصالح المعارضين، وتحليلات تليفزيونية أخرى تحدد بالأسماء قائمة المرشحين من الحزب الوطنى، ثم قائمة الناجحين من أحزاب المعارضة، ثم صحونا، أنت وأنا، على انتخابات لم تصدق فيها كلمة من هذه التحليلات، ولم تفلح فيها معادلة تحليل سياسى واحدة حتى يوم إعلان النتيجة.
بالنسبة لى، الانتخابات هنا مجرد مَثل صغير على حالة من الفراغ المعلوماتى الذى يقود إلى تحليل أعور وأشعث وأغبر لما يجرى فى مصر، نحن نعيش على الوهم، لا على الحقيقة، ونستمع إلى خبراء وحملة شهادات دكتوراه، ومعارضين بارزين، ورجال حكومة نافذين، ورؤساء تحرير مقربين من دوائر صنع القرار، وجميعهم على قلب رجل واحد لا يعرفون شيئا، لا نستثنى من ذلك أحداً، وجميعهم كذلك ليست لديهم القدرة على أن يعرفوا أى شىء، ومن ثم تحيا مصر دائماً على (الأكذوبة) الجماعية، نأكلها ونشربها ليلاً ونهاراً ظنا منا أنها الحقيقة المطلقة، ثم ندرك لاحقاً أن الحقيقة هى فى مكان آخر.
مصر ساحة للتنجيم الفاشل، والتحليل السياسى الأهوج الذى لا يتأسس أبداً على حقائق، أو على معلومات. نحن ضحايا غياب المعلومات، وغياب أجهزة استشعار الصدق من الكذب، والغث من الثمين فيما نسمعه من اللاعبين الأساسيين فى ساحة العمل العام فى مصر. التنجيم وقراءة الودع والكف والفنجان ربما تكون أكثر صدقاً فى بعض الأحيان، على الأقل تغازل خيالك بالأمل الناعم، ولا تكسر عظامك بالأكاذيب الغليظة.
مصر تحيا على التنجيم الخائب، لأن بئر المعلومات انقطعت عنها الماء منذ الأزل، ولا يلوح قاعها ببشائر نهاية العطش المعلوماتى إلى الأبد، مصر تحيا على التنبؤات المبعثرة، لأن رجال السلطة وملاك مفاتيح القرار لا يريدون إفساد متعتهم بجهلنا، وسخريتهم من حالة الناس وهى (تجرى وراء عربية رش!)، الناس ينصتون إلى أصحاب الياقات البيضاء والبدل المنتفخة وهى تتحدث فى الصحف، وأمام الكاميرات عن مستقبل البرلمان، ومستقبل السلطة، ومستقبل كرسى الرئاسة، ومستقبل العلاقات مع أمريكا، ومستقبل العلاقات مع العرب، ومستقبل السودان، ومستقبل الأسعار، ومستقبل رجال الأعمال، ومستقبل كل شىء، وفى الحقيقة لا أحد منهم يفهم الواقع حتى يدرك معنى المستقبل.
والحقيقة أيضاً أنه لا أحد منهم لديه بئره الخاصة للمعلومات، يروى منها عطش الناس، بل جميعهم يشربون فقط من نهاية صنبور (عربية الرش)، يجرون أمامنا ونحن نجرى وراءهم عمياناً، يرسمون من أوهامهم قلاعاً وحصوناً، ثم يطغى علينا موج الحقيقة ليطيح بكل الأفكار.
التنجيم أسهل من السياسة فى مصر، قراءة الفنجان أدق من قراءة حركة السلطة، وشوشة الودع أكثر حكمة من وشوشات نميمة الادعاء بالمعرفة التى ينتجها الملل الكسول فى بلادنا.
الآن إن قال لك أحدهم إنه سمع اسم رئيس الوزراء الجديد، فاعرف أنه يكذب أو يضرب الودع، وإن أفشى لك أحدهم تفاصيل صفقة سياسية جديدة، فاعرف أنه من المنجّمين الذين يستحيل عليهم الصدق أبداً، وإن قال لك أحدهم إن سيداً من أسياد السلطة مغضوب عليه، أو إن سيداً آخر مرضىُُّ عنه، أو إن حفنة من الأسياد يصارعون حفنة أسياد آخرين، فاعلم أيضاً أن كل هذا من قبيل التنجيم السياسى المرتبك، ووهم العطش إلى الحقيقة، بعد أن أصبح ماء معلوماتنا غوراً يا سادتى.. سوى الصنابير العملاقة لعربيات الرش.. ومن ادعى التحليل والاطلاع، فلينظر لنفسه فى المرآة ليقول الحقيقة الوحيدة.. «أنا أحلل.. إذن.. أنا كذاب».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة