تصوروا أن يكون عنوانُ المقال، هو أحدَ التعليقات المخجلة التى وردت فى خبر بثّته «اليوم السابع» عنوانه (مبنى من 3 طوابق بـ«العمرانية» يتحول إلى مسجد؟) دعك الآن من العنوان وهذا التعليق السخيف ولنعد إليه لاحقًا، وباستفاضة.
عندما وصلنى خبرُ هذا المسجد، اتصلتُ برئيس تحرير «اليوم السابع» الأستاذ خالد صلاح وطلبتُ إليه أن يرسل أحد الزملاء ليتحقق من الأمر بالوثائق كى أكتب مقالى على بيّنة. وبالفعل أرسل صحافيًّا ومصوّرًا وكتبت الزميلةُ رانيا فزّاع الخبر والتحقيق على موقع الجريدة الإلكترونى بتاريخ 10/12. وبالطبع انهالتِ التعليقاتُ وعمّتِ الزغاريدُ هنا وهناك، كأنه المسجدُ الأول فى مصر، أو كأن نصرَ الله المبين قد عمّ أرضَ مصرَ، وشاعتِ الديمقراطيةُ واختفى الجوعُ والفقرُ والمرضُ والفساد من بين جنباتها! ورغم أننى، فى البدء، كنت أنوى الكتابة عن موضوع التزامن المريب بين تشغيل هذا المسجد فجأةً وفى ليلة واحدة، رغم عدم اكتمال إنشائه ووقوعه فى بركة من القمامة ومياه الصرف، واعتماره 500 مسلم لصلاة الجمعة، وبين أحداث العمرانية المؤسفة، وعن التناقض العجيب بين سهولة حصول المسجد على تراخيص، إن كان ثمة تراخيص كما زعم إمام المسجد، فى مقابل عُسر استخراج تراخيص كنيسة، الذى يقترب من الاستحالة، وعن اليافطة الضخمة التى عُلِّقت على المسجد، وصور الأطفال وهم يشيرون بعلامة النصر أمام المسجد، وبإصبع الإبهام المنكّسة أمام الكنيسة كعلامة استنكار، وعن ظاهرة تعمّد إحاطة كل كنيسة فى كل حيّ بخمسة مساجد توجّه ميكروفوناتُها صوبها، وتعمّد أن يصرخ مؤذنوها فى نداء الصلاة، الذى من شرطه أن يكون جميلا وعذبًا وهادئًا ورصينا كما يليق بنداء على صلاة. فالكلمة المهموسةُ فى مكبّر الصوت تُسمع أفضل من الصراخ الأجش الخشن الذى يُنفّر بدل أن يُبشِّر بجمال الصِّلة بالله، كنتُ أنوى الكتابة حول كل هذا، إلا أننى وبينما أطالع الخبر لأدوّن ما أحتاجه من معلومات حول الأمر، اصطدمتُ بهذا التعليق الكارثيّ الذى أربكنى وعَقَلَ عقلى بالحزن والقنوط، فتركتُ مكتبي، وتوقفتُ عن كتابة المقال!
عدتُ الآن إلى نفسى وإلى التزامى. التزامى نحو البحث عن الجمال الذى نذرتُ نفسى له حتى الرمق الأخير من عمرى، وكذا التزامى المهنى نحو الجريدة. علىّ أن أترك القنوطَ جانبًا وأستكمل المقالَ الآن، لأننى لابد أن أرسله للجريدة صباح السبت (يعنى بعد ساعات قليلة والوقت تجاوز الخامسة فجرًا) لكى يُنشر فى النسخة الأسبوعية الورقية التى تصدر يوم الثلاثاء.
تأملوا معى التعليقَ الركيك فى عنوان المقال: «بالتى هى أحسن»، يخاطب أقباط مصر، كأنه سادىٌّ مريض يمسكُ عصًا يُرهب بها طفلا يتيمًا مهيض الجناح، لا أحد يناصره! علامَ استند كاتبُه، وبمَ استقوى ليكتبَ ما كتب من تجرؤ وجبروت وفاشية؟ نعرف الإجابةَ عن السؤال من الاسم الذى اختاره لنفسه فى صدر التعليق: «مسلم فى بلد مسلم»! هذا المواطن فقيرُ الوعى وفقيرُ الجمال وفقيرُ الروح يستقوى بالأكثرية على الأقلية ! ناسيًّا أن ثمة إلهًا عظيمًا أكبرَ، فوق الأقليات والأكثريات، وفوق الدستور وفوق الحكومات، وفوق البشر! ثم تأملوا معى بقية التعليق الركيك: «انتوا للأسف عندكوا كنيسة على أرض مصر مساحتها أكبر من مساحة المسجد النبوى» كلمة «للأسف» هذه التى خرجت منه كما يخرج السعالُ الموبوء من صدر مدرون، وكما يخرج الغُثاء القبيح من لسان خَرِفٍ غير مسؤول، كم تحملُ تلك المفردة العمياءُ من عنصرية وقبح وضآلة روح؟ هل أتى على المصريين حينٌ من الدهر تُلفَظ فيه كلمة «للأسف» مقرونةً بمفردة دار عبادة؟! لكِ اللهُ يا مصرُ يا درّةَ الشرق ومنارةَ العالمين!
هذا المُعلِّق، كائنًا مَن كان، الذى اختار أن يتخفّى وراء اسم مستعار، شأن الجبناء المرتجفين الذين يمارسون الإرهاب من وراء أقنعة، لم يعلّمه أبواه أن يتهذّبَ فى الكلام، وأن يتأدبَ حين يتكلم عن دار عبادة، وأن يحترمَ الآخرَ، كائنًا مَن كان، لأن هذا الآخر صناعةُ الله جلّ شأنه، وأن يزنَ كلماتِه بميزان الذهب قبل أن يهرفَ بها. وبعدما أخفق أبواه فى تعليمه، أخفق هو فى تعليم نفسه وتهذيبها والارتقاء بها من مرتبة الهمجى: أنا ومن بعدى الطوفان، إلى مرتبة الإنسان: أنا وأخى الإنسان ضد الطوفان.
أكاد أراهم الآن رأىَ العين. يرفعون سيفَ الإرهاب والترهيب والترويع فى وجهى وفى وجه كل مصرى يكره القبح والظلم ويفضح العنصرية ويحاول حتى النفس الأخير منعَ فتنة طائفية وشيكة، لا قدَّرها اللهُ، تلوحُ غيومُها السودُ فى الأفق. أكاد أراهم يرددون ببلاهة مفرداتهم التى لا يعرفون سواها مثل: الاستقواء بالخارج، ومخططات الغرب، وأن من يحاول أن يكشف كم الظلم الواقع على المسيحيين «يبقى بيشعل نار الفتنة» وكل تلك الكلمات الشوهاء العبيطة التى لا تصدر إلا عن ذهن مشوش معطوب، والتى لم تعد تنصتُ لها إلا آذانٌ مهترئة معطوبة.
كنتُ أنوى أن أوجّه مقالى إلى محافظ الجيزة لينظر فى شأن تراخيص المسجد الوليد، مثلما حشد جيوشَه لوأد الكنيسة. لكننى الآن أعترف أن المصيبةَ أكبرُ من محافظٍ وحكومةٍ وقوانينَ ولوائح. المصيبةُ تكمن فى عاصفة رملية بدوية ضربت نخاعَ مصرَ الطيبَ فأفسدت فطرتها الكريمة ونخرت فى وعى أدمغة شعبها. نحتاج الآن ثورةً ثقافيةً تعليمية تنويرية شاملة تحاول إصلاح ما أفسده المدُّ الوهابيّ من وعينا الرفيع السابق. نحتاجُ أن نصحو من غفلتنا ونجابه بشراسة غزوًا ظلاميًّا مُبشِّرًا بالويل والثبور.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة