أول مرة قابلته فيها كانت سنة 1977 فى مقر اتحاد الكتاب العرب فى دمشق، فى نفس اليوم الذى حملنى فيه بعض أفراد الأمن العراقى ووضعونى فى الطائرة المغادرة من بغداد إلى دمشق مطرودا من جريدة الجمهورية العراقية التى كنت أعمل بها محررا للشئون السياسية ومطرودا من بغداد كلها التى مازلت أعشق كل دروبها، لم أكن يومها أعرف أحدا من كتاب سوريا معرفة شخصية، كما أنى لم أكن أعرف أحدا فى دمشق إلا الشاعر الفلسطينى الكبير "أحمد دحبور" الذى كنت قد تعرفت عليه فى القاهرة (كان شاعرا شابا أيامها)، يومها ذهبت إلى اتحاد الكتاب العرب لأسأل عن "أحمد دحبور" فهو كل من أعرفهم فى دمشق، وكانت هذه هى المرة الثانية لى فى دخول دمشق، وبدا لى يومها أن هذه المدينة المذهلة سوف تكون قدرى الذى كتبه الله علىّ، فلم أدخل هذه المدينة بإرادتى فى المرة الأولى أو المرة الثانية، ففى المرة الأولى لدخولى دمشق دخلتها محمولا داخل سيارة عسكرية لنقل الجنود، حيث كانت القوات السورية تحاول إنقاذ المنظمات الفلسطينية من جحيم القتل فى "جرش" و"عجلون" إبان اشتعال معارك "أيلول الأسود" التى اندلعت بين القوات الفلسطينية والجيش الأردنى.
فقد كانت السلطات الأردنية ترى أن المنظمات الفلسطينية قد تجاوزت كل الحدود فى الأردن وكان لا بد من إخراجها عنوة، عندما اندلعت المعارك الضارية بين القوات الفلسطينية فى "عجلون" وقوات كبيرة، ومن جهات متعددة من الفرقة الثانية للجيش الأردنى التى كانت تمشط كل شبر فى الجبال والمرتفعات والمنخفضات والقرى حول "عجلون" فانتقلت القوات إلى قرية اسمها "الحصن"، ومنها إلى بلدة "إربد"، وعرفت يومها أن قائدى وصديقى "أبو على إياد" يقودنا باتجاه حدود سوريا لتخليصنا من القتل المحتم، وكانت بعض القوات السورية قد أتت لتنقذ الجميع من جحيم الفرقة الثانية الأردنية ويومها استوقف "أبو على إياد" سيارة نقل جنود سورية، وأمرنا بوضع بعض الجرحى فيها وأمرنى أن أركب معهم، ولم أكن أعرف لحظتها إلى أين سوف تحملنا سيارة نقل الجنود السورية، إلى أن وجدت نفسى فى "الشام" وعرفت يومها أن "الشام" هذه هى مدينة "دمشق" وبعد حوارات معى مع بعض الضباط السوريين استطاعوا الحصول لى بعد يومين على وثيقة سفر من السفارة المصرية وأركبونى الطائرة عائدا إلى مصر.
كان "راسم المدهون" أول من قابلته فى مبنى اتحاد الكتاب العرب، فدعانى على الطعام والشراب "لحظتها كنت جائعا ولا أمتلك ثمن رغيف خبز فقد أخذ أفراد الأمن العراقى فى مطار بغداد كل ما كان معى من دنانير عراقية"، هو شاعر فلسطينى يعيش فى سوريا من قلمه فهو صحفى أيضا وناقد أدبى يكتب فى الأدب والسياسة فى الصحافة السورية والعربية مثل النهار اللبنانية والحياة اللندنية، وأتابع هذه الأيام قصائده التى ينشرها فى بعض الأماكن وهى مجموعة قصائد تحمل عنوانا واحدا هو "مرآة" مع إضافة رقم يعلن به عن رقم هذه الـ"مرآة" فهذه "مرآة 1" وهذه "مرآة 2" حتى وصل ما قرأته له من مرايا هى "مرآة 276" التى أرسلها إلى منذ يومين:
"أيتها المرآة الساحرة المسحورة/ يا لذع الشهوة فى سرّة الغجرية اللّعوب/ أيتها الفتنة المنفلتة من قبتى نهديها/ أيتها النار التى تتثاقل فى العروق والأصابع/ وتحرق الصدغين/ والركبتين/ أيتها الرّعشات الموبوءة بالغبار/ كيف لشتاء كهذا/ أن يعرّش بظلال الثلج/ على فضّتك/ كيف للثعالب الماكرة/ أن تلوذ على هذا النحو البائس/ فى زوايا البرد/ راضية من العناقيد بصورتها/ فى الذاكرة والمخيلة؟/ وكيف لى/ أنا المدجّج بالقصائد/ أن أؤجل مناماتى العاجلة/ لطيف صيف لا يزال نائيا/ فى أجندة الفصول؟/ هنا / وأمام الشتاء والثلج الأبيض/ أعلن بكل ما فى فمى من القصائد والقبل/ أننى أبدأ حرب الكستناء/ حرب النعاس والنار/ سأدعوك لمائدة الجمر/ وأدعو العصافير/ كى تنزل من أعشاشها/ لمرآتك الغجرية/ كى نرتل معا/ نشيد العصاة".
المرأة فى مرايا راسم المدهون وقصائده كما تقول منى ظاهر: "هى الملاذ/ الوطن القرنفلة المعجونة بصخب النشوات والرغبات، هى الطّرب القاتل بحواسّ اللغة/ الجسد والروح، هى أرضه المرتبطة به اللافاعلة إلا معه وفيه/ هى المرأة المصغية لِسقطات هذياناته المندلعة على هواه بحروف تشبه رسما منحفرا لخريطة القلب المنضوى عن فعل الحب والفعل "أحبّ".. هو الراغب فيها - امرأة تشاركه الحراك فى خلق الحياة، تجربة حية من قول وفعل وصور".
راسم المدهون شاعر فلسطينى مقل جدا فى قصائده ففى الوقت الذى لا يقل ما نشره بعض شعراء جيله عن عشرين مجموعة شعرية فإنه لم ينشر سوى أربع مجموعات شعرية هى "عصافير من الورد" سنة 83، "دفتر البحر" سنة 86، "ما لم تقله الذاكرة" سنة 89، "حيث الظهيرة فى برجها العاجى" سنة 2002، فيما يبدو أن الصحافة قد أخذته من الشعر فى أوقات كثيرة فهو لم يستطع مطلقا أن يتخلى عن متابعة الأحداث الفلسطينية بكتاباته السياسية التى لا تجامل ولا تتخذ أى مواقف حيادية مائعة وهو ما يسبب له الكثير من المتاعب، ولا أظن أن متاعب "راسم المدهون" سوف تنتهى قريبا، ليظل ساكنا فى مرايا ذاكرتى شاعرا مدهشا، كما أدهشنا دائما بمراياه الرهيبة.
• كاتب وروائى مصرى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة