كان الرجل يتكلم باتزان لا نعهده فى الذين نطلق عليهم "مرضى نفسيين" أو بالبلدى "مجانين"، "أنا بقالى هناك أكثر من عشرين سنة، أخويا جابنى لما مقدرش يدفع مصاريف العلاج فى المستشفى الخاص، وخرجت مرات قليلة فى زيارات ورجعت، لأنى خلاص مقدرش أعيش غير هنا".
الرجل أحد نزلاء مستشفى الصحة النفسية بالعباسية، الشهير بمستشفى العباسية، والذى أصبح اسمه مع مستشفى الخانكة رمزا أو مصطلحا يستخدمه الناس عند وصفهم الأمور المختلة أو هلفطة الكلام عند البعض، لكن الرجل، حقيقة، يبدو أكثر صدقا وعقلانية من كثيرين نصادفهم كل يوم، بعيدا عن أسوار المصحات النفسية.
"عندما رسبت فى السنة النهائية من كلية الهندسة، أصبت بحالة نفسية سيئة، زادت بعد رسوبى للسنة الثانية وأصبحت أرى هلاوس وخيالات، أخى حاولى علاجى على نفقته الخاصة، لكن ما أذكره جيدا أنى حاولت الحصول على عمل، أى عمل وفشلت، وهو ما أدى إلى زيادة حالتى سوءاً".
الرجل كان يرتدى "تريننج سوت" قطنيا، يعتبره كثيرون بيجاما للنوم، ويجلس على سرير حديدى مرتب جيدا، ويبدو مرتاحا ووزنه زائدا، وكأنه أحد الذين خرجوا على المعاش المبكر واستغنى عن كثير من مستلزمات العيش واقتنع بنظام تقشف يكفل له الحياة بهدوء وسط الصخب والعنف الذين يميزان حياتنا، لكنه بالتأكيد لا يعلم أن المسئولين ينوون هدم الملجأ الأخير الذى يحتمى به من العالم، وبيع الأرض كالعادة للمستثمرين الذين سيحولون لون المنطقة القريبة من وسط المدينة إلى مولات وعمارات فخمة خالية من الروح، بأسعار خيالية.
"لا أستطيع الخروج الآن ولا العيش خارج جدران المستشفى، يقول الرجل، أنا كبرت ووزنى زاد، ولا أستطيع أن أبدأ حياتى فى مكان آخر، لن أجد فرصة عمل تاهت منى عندما كنت قادرا على التصدى لها، ولن أستطيع الارتباط وإنجاب أبناء، يكفينى زيارات الأهل فى المناسبات وسؤالهم عنى، ومع ذلك لى طلبان، الأول أن تتغير صورة المرض النفسى عن الناس، فليس كل المرضى خطرين أو غير قادرين على العمل، الناس عندما تعرف أنك مريض نفسيا أو عندك تاريخ مرضى ترفض التعامل معك، وهو ما يزيد من عزلة المريض، الطلب الثانى أن يعامل الممرضون المرضى بشكل أفضل قليلا، هناك ممرضون يدفعون المرضى إلى ضرب بعضهم البعض لمجرد أن يضحكوا، وهناك ممرضون يعاقبون المرضى بالأدوية القوية التى تؤثر على نشاطهم أو بحرمانهم من جرعات الأدوية التى يستحقونها، غير ذلك لا طلبات لدى.
كان الرجل يتكلم بطلاقة واتزان فى برنامج "واحد من الناس" للإعلامى المتميز عمرو الليثى، محافظا على هدوئه بينما البلدوزرات تقترب من سور المستشفى وآلاف البرقيات والاستغاثات والمقالات تنهمر على مكاتب المسئولين الذين اتخذوا قرار الهدم.
المقالات والاستغاثات والبرقيات، توضح أن مستشفى الصحة النفسية بالعباسية أحد المعالم المهمة فى القاهرة، لا يصح أن يُهدم أو حتى يُنقل، ومهما كان المقابل المادى كبيرا، هى أشياء لا تشترى، لكن الرجل الهادئ المتزن داخل أسوار "العباسية"، ومعه أصحاب الاستغاثات والبرقيات، نسوا جميعا، أن من شروط تعيين المسئول عندنا أنه لا يرى!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة