أيها القارئ المصرى المسلم الكريم: هل فكرت فى أن تهنئ جارك المسيحى بأعياد الميلاد التى تلوّن بشائرها سماوات مصر كلها حالياً؟ وهل بادرت إلى تقديم التهانى إلى زميلك المسيحى، سواء كان فى العمل أو الدراسة، بهذه المناسبة الجليلة؟ أعتقد أنك فعلت ذلك، فنحن المصريين المسلمين نعرف الواجب ونقدر قيمة إخواننا فى الوطن، وبالتالى لا يليق ولا يجوز أن يهل عيدهم علينا جميعاً ولا نهرع إلى تحيتهم وتهنئتهم ومشاركتهم فرحتهم. مثلما كنا نفعل طوال القرون. وكما يفعل أخواننا المسيحيون معنا، حيث يفرحون لنا حين تسطع أنوار شهر رمضان الكريم، ويراعون مشاعر الصائمين فلا يتناولون الطعام أمامهم، على الرغم من أن هذا الأمر لا يزعج الصائم ولا يوتره، ومع ذلك فالمصرى المسيحى النبيل يمتاز بالسلوك الرقيق أمام شقيقه المصرى المسلم، كما يسارعون دوماً إلى تقديم التهانى لنا بعيدى الفطر والأضحى المباركين.
أيها القارئ المصرى الكريم (مسلماً كنت أم مسيحياً): لعلك تذكر ما كتبه اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى فى مصر (أى حاكم مصر الفعلى) عام 1906 فى تقريره السنوى الذى يرفعه إلى وزارة الخارجية فى بلده، كتب يقول: إنه لم يجد فرقاً بين المصرى المسلم والمصرى المسيحى، سوى أن الأول يذهب إلى المسجد يوم الجمعة، والثانى يتوجه إلى الكنيسة يوم الأحد. وأضاف اللورد كرومر: إنهم (المسلمين والمسيحيين) يعملون معاً، ويسكنون معاً فى نفس الأحياء، ويتناولون نفس الطعام، ويتحدثون نفس اللهجة، ويضحكون على نفس النكتة. وإذا فقد أحدهم عزيزاً لديه هرول الجميع (مسلمون ومسيحيون) لمواساته وشد أزره.
كان اللورد كرومر يعبّر بهذا الكلام عن عجزه التام أمام وحدة الشعب المصرى، حيث كان يفتش عن أى وسيلة يشطر بها مجتمعنا إلى نصفين: مسلمين فى ناحية، ومسيحيين فى ناحية من باب شعار الاستعمار الخبيث (فرّق.. تسد).
نعم.. أخفق اللورد كرومر فى مسعاه، حيث ظللنا نحن المصريين شعباً واحداً يواجه المحتل الإنجليزى بكل طاقته، وكان شعار ثورة 1919 المدهش (الدين لله والوطن للجميع) خير دليل على فطنة المصريين وذكائهم.
لا تنس من فضلك أن أهم وأشهر رجل مصرى فاوض الإنجليز على الاستقلال قبل يوليو 1952 كان مكرم عبيد (لاحظ أن اسمه لا يدل على ديانته)، وهو سياسى مسيحى محنّك تولى سكرتير عام حزب الوفد فترة طويلة. وكان مفاوضاً عنيداً يدافع باستماتة عن حق مصر فى الاستقلال.
أيمن وأشرف ونبيل ورأفت وسمير وأمير وسامى وفؤاد وفهمى هى أسماء أصدقائى وزملائى المسيحيين أيام المدرسة والجامعة، وهى نفسها أسماء أصدقائى وزملائى المسلمين فى الفترة نفسها قبل 35 عاماً تقريباً. أى أن الذين ولدوا فى خمسينيات وستسينيات القرن الماضى تمتعوا بنفس الأسماء، حيث لم يكن أحد يعرف مَنَْ المسلم؟ ومَنْ المسيحى؟ لأن المصريين آنذاك كانوا مشغولين ببناء الوطن بعد التخلص من الاستعمار والملك وزبانيته، حيث كان هناك مشروع قومى يجمع المصريين (مسلمين ومسيحيين) تحت لوائه، والكل يسعى لإنجاح هذا المشروع بغض النظر عن السلبيات التى رافقته.
أما الآن ومنذ أكثر من ثلاثة عقود تقريباً دارت الأيام دورة معاكسة، وطغت على المصريين نزعة دينية شكلية، للأسف الشديد، بسبب عوامل كثيرة أبرزها ظلم الحكام واستبدادهم، وانتشار الفقر، وتغول الفساد وسوء الإدارة، مع غياب مشروع قومى قادر على جرجرة الجميع لإنجازه! كل هذا أسهم فى شيوع أفكار متشددة وشكلية، هبت علينا من مناطق مجاورة، تختزل الإسلام العظيم فى شكليات وأسماء فقط، فأخذ الناس يطلقون على أبنائهم أسماء المسلمين الأوائل ظناً منهم أنهم يؤكدون إسلامهم بذلك، الأمر الذى أدى بالضرورة إلى أن يتقوقع المسيحيون داخل كنائسهم ليطلقوا على أبنائهم أسماء رموزهم المسيحية، فصرنا نطالع أسماء: بيتر وألفريد مينا فيليب موريس، فى مقابل أبو بكر، معاذ، بلال، عثمان، إسلام.. الخ.
وعلى الرغم من أن هذه الأسماء القديمة كلها معبرة وجميلة، سواء كانت للمسلمين أو للمسيحيين، إلا أنها تلعب دوراً خطيراً فى انشطار المجتمع إلى فئتين كل منهما مدجج بأسمائه، وكأن أسماءنا هذه تمنحنا حصانة وقوة فى مواجهة الآخر الذى هو شقيقنا فى الوطن!
المحزن أن أيمن وأشرف ونبيل وأمير وفؤاد أسماء أيضاً ذات معانٍ سامية وجميلة، ولا تحمل داخلها هذه النزعة المشئومة للانعزال والاحتماء بالدين فقط، بدلاً من الاحتماء بالوطن، لأن مصرنا العزيزة موجودة قبل الأديان، وحاضرة بقوة قبل أن يبعث الله موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وستظل بإذن الله إلى أبد الآبدين.
لا مفر من أن نعترف أننا أصبحنا فى حاجة ماسة لإشاعة فضيلة التعايش مع الآخر واحترامه وتقديره، لأن الآخر هنا هو جارى وجارك، وزميلى وزميلك، وقد عشنا جميعاً بسلام فى هذا الوطن طوال قرون عديدة، وعلى الأغلبية المسلمة أن تدرك أن من واجبها استيعاب أهلنا المسيحيين، وسامح الله السفهاء منا الذين يحكمون البلاد فأخفقوا فى إدارتها نحو التقدم والازدهار، إذ نهبوا خيرات الوطن وعطلوا تمرير القانون الموحد لبناء دور العبادة ليستمتع أشقاؤنا المسيحيون بالتعبد فى كنائسهم، مثلما يستمتع المسلمون بالصلاة فى مساجدهم. أقول لقد نهبوا الوطن، وتركونا نحن المسلمين والمسيحيين نتقاتل على لا شىء.
وفى الختام ليس لى سوى أن أقول لكل مصرى مسيحى: كل سنة وأنت طيب أخى الكريم.