تعرض حاليا دور العرض المصرية فيلم «678» الذى كتبه وأخرجه محمد دياب فى سابقة أولى للسينما المصرية، حيث يتعرض لظاهرة التحرش الجنسى الذى أصبح ظاهرة ضاربة فى جذور المجتمع المصرى، ولست هنا بصدد الحديث عن فيلم سينمائى، فالأفلام تعيش ونستطيع الحديث عنها على مدى أسابيع، بل حتى بعد سنين إن طال العمر، ولكن حاضر المجتمعات وأزماتها لا يحتمل الصبر. وحاضرنا صار ذا مرارة كالعلقم إن لم نفتح جراحه، وبعضٌ من جراحنا أننا استمرأنا الفساد حتى صار نغمة يومية تصدح على آذاننا وأمام أعيننا ليل نهار، وبعضٌ من فسادنا متمثل فى إعلامنا، وأغلب فساد إعلامنا متمثل فى شقين: الدين بقنواته وبرامجه ورجالات إعلامه، والرياضة وقنواتها وبرامجها ورجالات إعلامها. ورب سائل يسأل أما وإن كنت أتكلم عن الإعلام فلِمَ ذكرت فى المقدمة فيلم «678» الذى يتناول ظاهرة التحرش الجنسى؟ والإجابة ببساطة أن آخر ما أصابنا من برامج الرياضة من حوادث كان أشبه بالتحرش الجنسى، فما حدث على الهواء مباشرة منذ أيام على قناة مودرن الرياضية من أحد من يطلقون عليهم نجوم الإعلام الرياضى مدحت شلبى هو تحرش جنسى، ولكن على الهواء مباشرة وليس لامرأة واحدة ولكن للملايين.
الكابتن مدحت شلبى كما يعرف القاصى والدانى قرأ نكتة قبيحة ومتحرشة على الهواء مباشرة، ولم تكتف الرياضة أو الكرة فى مصر بذلك، بل بعدها بساعات سمع أيضا الملايين تحرشا لفظيا جماعيا فى نهاية مباراة الأهلى مع حرس الحدود، بلاعب الزمالك شيكابالا، وساهم الإعلام حين ترك أصوات الجماهير دون قطع. وأعاده برنامج شوبير على آذان الملايين مرة أخرى دون قطع أو مونتاج كان ممكنا.
ثم اكتملت المهزلة حين خرج أيضا على الملايين السيد رئيس قناة مودرن فى برنامجى «90 دقيقة» و«العاشرة مساء» وهو يقول إن القناة قد وجّهت اللوم لمذيعها، وإنها لا تسمح بأى تجاوز، ولا حاجة لها بلجنة تقييم لأنها تقيم نفسها دوما.
والحق أن الآفة لا تخص مدحت شلبى أو «مودرن» بشكل خاص، الآفة صارت مجتمعية إن لم نقف ونقل فيها على الأقل كلمة، نكن فقدنا حتى أضعف الإيمان. ولألخص وجهة نظرى فى نقاط محددة:
أولا: اقتصرت البرامج الرياضية فى مصر على كرة القدم دون غيرها، ولا أحد ينكر شعبية اللعبة، ولكن الإعلام قادر على تجييش الاهتمام بألعاب أخرى إن سلط عليها الضوء، ولكنه إعلام منساق أقرب للإعلان منه للإعلام.
ثانيا: شتان بين لاعب كرة ماهر أو مدرب عظيم فى الملاعب أو معلق على اللعبة يعرف أصولها، وبين إعلامى يعرف أصول المهنة، ولكننا خلطنا الأوراق حين أضفنا للاعبين عقولهم تكمن فى أقدامهم صفة الإعلاميين، وصاروا يجلسون بالساعات أمام الجماهير يخرجون إحباطات تاريخهم علينا فى صور مختلفة.. ومن الغريب والمثير أن برامجهم جميعا تأتى فى الليل وآخره، حين تهدأ المدينة ويجلس الناس أمام الشاشات إما فى بيوتهم أو على المقاهى. ويتصدر المشهد مجموعة كباتن «جمع كابتن» تفتى فى كل شىء حتى السياسة، ويتناطحون فيما بينهم للفوز بالكعكة الإعلانية بأى صورة، وكلها صور هزلية حتى كان آخرها نكتة جنسية.
ثالثا: أغلب مشاهدى هذه البرامج هم من البسطاء أو المحبطين من الشباب بسبب البطالة، أو عدم القدرة على الزواج أو غيرها من الهموم، وبالتالى فهم الأكثر تأثرا بفجاجة هذه البرامج، وهم أيضا الأكثر تأثيرا فى فجاجة عامة فى المجتمع.
رابعا: فى مصر هناك ظاهرة متميزة فى السوء يلخصها المثل الشعبى الذى يقول «كلما زاد الشىء عن حده انقلب إلى ضده»، وتحت هذا العنوان زادت مظاهر الدين وقنواته وقنوات الرياضة ورجالها، وما زادتنا الأولى تقوى وحسّنت حياتنا، وما أضافت الثانية صحة أو أخلاقا ترتبط بكلمات الرياضة، وبالتالى ينتفى الغرض من الاثنتين، بل صار إثمهما أكبر كثيرا من أسباب وجودهما.
خامسا: حتى تاريخ ليس ببعيد كان الذوق المصرى الذى تندرج تحته صفات عديدة مثل الذوق فى الملبس والمأكل والشكل والأخلاق والفن، كان هذا الذوق رفيعا، وكانت الأمم العربية تتمثل بنا، ولكن للأسف انحدر كل ذلك، فصارت أذواقنا فجة فى الملبس والمأكل والحديث والفن حتى أصبحت «زهرة وأزواجها الخمسة» بفجاجتها وملابسها وأدائها نموذجا للنساء، وصار أباطرة قنوات الدين فى تجهمهم وتعصبهم نموذجاً، وأباطرة قنوات الرياضة بصوتهم العالى وأخلاق الملاعب وأداء أصابعهم وألسنتهم نموذجا للشباب. هل لا يذكر أحد أن مدحت شلبى نفسه منذ فترة وعلى الهواء مباشرة بعد مباراة مصر مع الجزائر أدى بيده حركة لها معنى قبيح، ولم يتوقف أمامه أحد ليقول عيب!
أخيرا: قد يقول قائل أفسدتِ علينا حياتنا وجعلتِ الكل باطلا.. فما الحل؟ وعفوا لا أملك الإجابة القاطعة بحل سحرى يعيد للمجتمع المصرى سلامه وذوقه وأخلاقه، ولكننى أطالب بديكتاتورية عادلة مع المخطئ، وديكتاتورية أزمة الحرب، فالسارق يُقتل والمخطئ فى الإعلام يُفصل، فنحن فى زمن حرب مع القبح و«الإباحة» والتطرف.. فلا يكفى عقاب مثل توجيه اللوم أو الإنذار، فهذه عقوبات لينة تصلح فى أزمنة هادئة، ولكنها لا تصلح فى زمن الحرب.
وعلى عكس كثير من الدول نحن مازلنا فى دولة مركزية، بها وزارة إعلام وعلى رأسها وزير إعلام، والدولة هى التى تملك حق الإشارة والبث التليفزيونى. وعلى وزير الإعلام أن يعلم أنه كما هو مكلف من قِبل الحكومة والدولة بمنع ما يتجاوز عن سياساتها، فهو أيضا مُكلف من قِبل بعض الشعب الذى لم يفسد بعد، بأن ينقذه من فساد الإعلام الرياضى، وفجاجة كباتن الكرة.
وعوداً على بدء، فالبعض اتهم فيلم «678» بالتعرض لسمعة مصر لأنه يناقش برقى ظاهرة التحرش الجنسى، فما بالهم أمسكوا بفيلم ونسوا القنوات الرياضية ورجال إعلامها الذين يسيئون لأم مصر ليل نهار، وعلى عينك يا تاجر.
ولا فرق بين أبوليمونة» كما فى الفيلم، وأباطرة الإعلام الرياضية و«مساء الأنوار».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة