لم تكن هذه زيارتى الأولى إلى الجزائر، ولكنها الثالثة، تلك الدولة العربية شديدة الانتماء للعروبة والإسلام، رغم كل التحديات التى واجهتها عبر تاريخها البعيد والقريب، رغم قسوة الاستعمار الفرنسى الذى انطلق ولم يزل من منطلقات دينية غير متسامحة. فالحملات الصليبية كانت فكرة فرنسية، كانت قيادتها فرنسية ولو ترأس جيوشها تارة ريتشارد قلب الأسد ملك الإنجليز. والغريب أن هناك كثيرين فى بلادنا العربية ممن يدعون الفكر والثقافة يحتفلون بالحملة الفرنسية على مصر، بالرغم من أن الاستعمار الفرنسى حاول جاهدا أن يعبث بعقائد البلاد التى استعمرها، اشتغل بالتبشير، وحاول أن يطمس اللغة العربية وأن يطمس أيضا الحقائق التاريخية للحضارة الإسلامية الزاهية.
هناك فى الجزائر يقاومون آثار العدوان حتى الآن.. يعلّمون أبناءهم اللغة العربية، يفرضونها فى مدارسهم ومعاهدهم العلمية، ورحم الله الرئيس الجزائرى أحد أبرز قادة ثورة الجزائر هوارى بومدين الذى كان له سبق التنبه إلى ضرورة إعادة ثقافة اللغة العربية وتعليمها، فقد أعاد لها الاعتبار. ورغم تعدد الأعراق فى الجزائر فإن الرغبة موحدة فى التأكيد على الهوية الإسلامية، واللافت للانتباه أنه رغم تجدد الأجيال فإنها متواصلة ولا تجد غير الولاء لشهداء الثورة الجزائرية، فهناك خط أحمر يحظر أى مساس بتاريخ الثورة أو شهدائها، ولم تزل الصدارة أو الأسبقية للمجاهدين الذين جاهدوا الاستعمار، وصبروا على قسوة الحرب وما خلفتها من دمار, بينما فى مصر لم يزل هناك من يشكك فى ثورة يوليو بما أحدثته من انقلاب فى جذر الحياة الاجتماعية، والبون شاسع جدا بين نقد تجاوزات وقعت، والتشكيك فى بنية الثورة ومرجعيتها.
فى المرتين السابقتين زرت الجزائر دفاعا عن شاب مصرى أحب الجزائر واستوطنها وتزوج منها ورزق بأطفاله الذين صاروا بالمولد والأم جزائريين. اتهمته السلطات هناك بدعم وتقديم العون للشباب الجزائرى للسفر إلى العراق إبان الغزو الأمريكى لها بأن يدبر لهم تذاكر السفر، فعاقبته محكمة الجنايات بالسجن المشدد 15 عاما، ولم تزل هناك جولة أخيرة أمام محكمة التمييز الشهر القادم.
والحقيقة أن هذا الشاب فى حاجة إلى نظر فى أمره، فكما قدمت فإن الرجل محب للجزائر، وقدم برهان حبه أثناء الزلازل التى ضربت أنحاء الجزائر، فقدم مما أفاء الله عليه من مال فى تقديم العون أيضا لمصابى الزلازل، والذين هدمت بيوتهم فى إطار الجهود الرسمية الإغاثية والدولية أيضا.
وإن عتبت فعتبى على الدكتور يوسف القرضاوى، وكنت قد سلمته يدا بيد رسالة من الشاب المصرى ياسر سالم وأخرى من أسرته، طالبين منه الشفاعة لدى الرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة ليطلق سالم، فالقرضاوى له هناك مكانة وحب وتقدير، فما له يضن على مواطن مصرى- ليست له أى ارتباطات تنظيمية- كان تورطه بسبب فتوى أطلقها القرضاوى نفسه بضرورة تقديم العون للمقاومة العراقية لدحر الاحتلال الامريكى؟! لاسيما أن المناخ هناك مهيأ لهذه الشفاعة، فقوانين العفو والوئام التى تم تطبيقها على الجزائريين ينبغى أن تشمله، لكن فضيلة الدكتور القرضاوى ربما انشغل عن رعاية هذه الأسرة المصرية بأمور أخرى.
ذهبت إلى الجزائر بدعوة كريمة من جمعية الإصلاح والإرشاد ضمن وفد مثّل المنتدى العالمى للوسطية، ضم أمينه العام مروان الفاعورى وآخرين من الأردن والمغرب واليمن وسوريا فى إطار ندوة دولية تقيمها لدعم تيار الوسطية، وهناك وجدت حب الجزائريين لمصر والمصريين منذ حطت طائرة الخطوط المصرية مطار هوارى بومدين، والترحيب الشعبى أسعدنى لما له من دلالة تدحض كل دعاوى الفتنة التى كاد أن يوقعنا فيها البعض منا.
ولا شك أن علاقات الشعوب أبقى من أى علاقات دبلوماسية، وحوارات الشعوب أمضى فاعلية من حوارات الرؤساء والوزراء الرسمية.
نُقلت من المطار- رغم وعثاء الرحلة- إلى دار الشروق مباشرة. هكذا بدأت أولى ترتيبات الرحلة وفق مشيئة منظميها، وهناك دار حوار حامى الوطيس مع أسرة تحرير الشروق، عن الفتنة وحرق علم الجزائر على بوابة نقابة المحامين، وحادث الطوبة الشهير وما جرى فى الخرطوم، وكانت سعادتى أن حوار الشروق تم بثه على الهواء مباشرة فى إطار البث التجريبى لتليفزيون الشروق على شبكة الإنترنت، وهى تجربة تحتاج للتنفيذ فى صحفنا المصرية خاصة «اليوم السابع» وهى تتهيأ للإصدار اليومى.
والحقيقة أننى لم أشأ أن نعود لنبش أحداث الماضى، وكانت رغبتى فى تجاوز الأزمة وضرورة استخلاص الدروس والعبر، فإن من تصدى لأى إساءات وقعت أو نالت من الجزائر أو رموزها كانوا هم الكثرة الغالبة وهم السواد الأعظم، فإذا كان هناك محام شاب متهور حاول حرق علم الجزائر فمن نكروه كانوا الأغلب، ونوقش الموضوع فى أول اجتماع للمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب، وأحيل للجنة تحقيق رصدت الحدث، فلا تتحمل نقابة المحامين أو عموم المحامين وزر هذا الشاب المتهور. حب المصريين للجزائر لا يحتاج إلى برهان، فمصر احتضنت الثوار والثورة الجزائرية، ودماء الجزائريين سالت على الجبهة المصرية، وبترول الجزائر كان ضمن منظومة النصر التى تحققت فى أكتوبر 73.
ما لاحظته أن رغبة الجزائريين فى التحدى قوية، وهو حق مشروع أن تشرع أمة فى اللحاق بركب الحضارة، والتقدم على مختلف الأصعدة. إن ميراث الدماء التى أراقها شهداء الثورة الجزائرية ينبغى أن يضع الجزائر فى مصاف الأمم الكبيرة الرائدة.
ما استخلصته من حوار الشروق الجزائرية أن لقاء الرؤساء لم ينسخ الأحداث التى وقعت، فلم تزل هناك «غُصة» وهنا أيضا، لذلك أشرت بضرورة استمرار حوارات الشعوب والنخب الشعبية حول ملفات كثيرة عالقة، خاصة أن أحد أبرز تلك الملفات هو ضرورة إعادة الملف الفلسطينى إلى المشهد، ودعم المقاومة هناك فى ظل الصلف الصهيونى والرعاية الأمريكية للعدوان الإسرائيلى ورفض إقامة الدولة الفلسطينية.
إن الحركات الفلسطينية فى حاجة أكيدة للتفاهم بينها، والتوحد لمواجهة الواقع المر الذى تعيشه قضيتهم ويعيشه شعبهم، سواء المحاصر فى غزة أو المحاصرة قضيتهم ودولتهم فى الأمم المتحدة، ويبقى دور النخب العربية والإسلامية فى التقريب بين رفاق الجهاد والكفاح ضروريا.
هناك الكثير مما دار فى ندوة جمعية الإصلاح والإرشاد على مدار يومين، أو على هامش انعقادها ربما يحتاج لمقال قادم أيضا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة