صدر العدد الأخير من مجلة "إبداع" بعد انقطاع ومعه كتاب خاص بقصيدة النثر المصرية الحديثة بعنوان "صيد وحيد"، وهو جهد محمود، لو كان القائمون على "إبداع" ينشدون مراجعة أو تقديم اتجاه بعينه أو رافد محدد ضمن روافد واتجاهات قصيدة النثر المصرية الحديثة، لكن الغريب أن حسن طلب صاحب الفكرة، حسبما جاء فى مقدمة كتاب القصائد، أراد بعد أكثر من 50 عاماً على تكريس قصيدة النثر فى الشعر العربى، وبعد أن أصبحت المتن فى الشعر المصرى وما عداها هوامش خارج الزمن، أراد أن يحيط بها فى كتاب ليعيد إنتاج المعارك الهزلية القديمة حول مشروعيتها ووجودها، وهل تخفف شعرائها من العروض الخليلى حرام أم حلال!
اعتقد حسن طلب أنه بكتابه هذا الذى يضم مجموعة من القصائد المختارة لشعراء مصريين سوف يكشف ويعرى قصيدة النثر المصرية أمام القراء، وكأنه خرج فجأة من كهف "إبداع" المجلة التى ماتت منذ تولى أمرها مع رئيسه أحمد حجازى، تماماً مثلما خرج أهل الكهف من رقودهم ثلاثمائة عام أو يزيد إلى سوق الشعر بورقه القديم، ليكشف نفسه أمام القراء والشعراء والمتابعين، وكيف خرج خطأً من قبره ليجمجم بلغة قديمة عفا عليها الزمن، داعياً لمعارك هزلية تجاوزتها القصيدة، مجاهراً بأن عبادة الأصنام فى الشعر والثقافة المصرية هى الدين الحق وما عداها كفر وهرطقة!
أتساءل، كيف يعمد مسئول عن دورية ثقافية إلى مقاربة الشعر بغرض محاكمته؟ وكيف يتوجه من يحسب نفسه على الشعر إلى تصفية المختلفين معه جمالياً أو كشفهم أمام القراء كما يزعم، على صفحات مجلة عامة شاءت المصادفة الرديئة أن يتولى أمر تصفيتها، ماذا لو اشتغل بالسياسة؟ ماذا لو وصل أمثاله إلى الحكم افتراضا؟ بلا شك سيفتحون السجون والمعتقلات أمام مخالفيهم، وسيجرون المحاكمات الصورية لهم، ويبتسمون أمام جثثهم المعلقة على أعواد المشانق فى الميادين!
الحجة لدى حسن طلب وأمثاله أنهم يدافعون عن الشعر وعن الإبداع، وهى كذبة كبيرة ،لا تبرر لهم أن يسيئوا تقديم مخالفيهم على صفحات يملكون فيها القرار التحريرى الأخير، ولأن الشعر هو من يدافع عن الشعراء وليس العكس، أما من يزعمون الدفاع عن الشعر والفن، فهم يدافعون حقيقة عن نموذجهم الذى يكتبونه ويدركون تهافته وضعفه وهوانه على القراء، تماماً مثلما يقتل الديكتاتور خصومه دفاعاً عن تصوره هو لفكرة الوطن الذى لا يتسع إلا له ولأنصاره.
الخطير فيما فعله حسن طلب فى "إبداع"، أنه قدم نموذجاً للقمع باسم الثقافة والإبداع، وقتل فكرة التنوع والاختلاف، فى الوقت الذى نحتاج فيه أشد الاحتياج إلى تكريس النخبة المثقفة والسائرين فى ركبها، لمبدأ الحرية، ولتكن حرية الإبداع دون قيد أو شرط، الحرية دون استثناءات، هى الشعار الذى تلتف حوله النخبة المثقفة، لتلتقى مع جهود منظمات المجتمع المدنى التى تعمل مع القواعد الاجتماعية العريضة لإرساء الإيمان بالتنوع والتعددية وقبول الآخر.
على العكس من ذلك، التقى حسن طلب مع جماعات التكفير والتحريم والمنع، فإذا كانت هذه الجماعات تكفر المبدعين باسم الدين من خلال قراءتها لظاهر النصوص الإبداعية، فإن طلب وأشباهه من الأصوليين وعباد الأصنام فى الثقافة المصرية، يكفرون المبدعين باسم الدفاع عن صحيح الإبداع، وهو ما يعنى نهاية الثقافة المصرية.