"أشرف حامد" عامل معمار مصرى بسيط، دفعته ظروف الحياة، للبحث عن لقمة العيش.. فغادر مسقط رأسه بقرية مرزوق مركز البلينا فى أقصى صعيد مصر، وتنقل بين مدن الصعيد، وعندما لم يجد بها ضالته وضاق به الحال اتجه مباشرة للعاصمة سوهاج، وهناك تعرف إلى سمسار عرض عليه السفر للعمل بالسعودية.. أخيرا ابتسمت له الدنيا فقد وجد "كفيلاً" يقتسم معه الريالات المعدودة التى يكتسبها.. هناك اعتاد أشرف أن يبدأ يومه مع آذان الفجر وينهيه مع غروب الشمس.
صفاته الشخصية التى اشتقها من اسمه، جعلته عاملاً محبوباً ومطلوباً لأغلب مقاولى المعمار فى منطقة حفر الباطن النائية.. فقد منحه الله قوة تحمل لا مثيلَ لها يُضَافُ إليها ضميرُهُ وأمانتُهُ التى لم تكن يوماً محل شكٍ عند كل من تعامل معه، منذ وطأت قدماه أرض المملكة الشقيقة.
ظل أشرف يكافح فى غربته، يزاول أعمالاً شاقة يتحملُ شمساً تحرقُ كاهله المثقل بالأعباء لكنه أبداً لم يتحملْ أن يرحل والده بعيداً عنه وهو حبيس الغربة بين أشقاءٍ أغرابٍ.. هذا الموقف ظل يؤثر فى نفسه يؤلمه بقسوة.. كان كلما تذكره، انتحى جانباً، بعيداً عن أعين من معه فى العمل، وينخرط فى البكاء، فقد كان الابن البكر الذى علق عليه والده آمالاً كبيرة فى مساعدته على تربية أشقائه الأربعة.. ينهض أشرف بعد أن يهدأ من وصلة البكاء، وبداخله عهد بألا يخذله، وأن يكون عونا للأسرة من بعده.. وسط هذا الكفاح اليومى، لم ينس البر والوفاء لأهله مثل باقى أهل الصعيد المخلصين، أرسل يستدعى شقيقيه رجب وعادل للحاق به، واقتسم معهما العمل والرزق فى تلك المنطقة المعزولة.
رغم تواضع وبساطة نشأته، فإنه تربى على الاستقامة والعفة، لذلك قرر أن يتوج إجازته الوحيدة لقريته باستكمال نصف دينه، والزواج من إحدى قريباته، التى قرر أن يصطحبها معه للتخفيف من قسوة الغربة ومشاركته الحياة حلوها ومرها.. فى تلك الزيارة استحلفه ابن عمه، "على" بأن يبحث له عن عمل معه فى الأراضى المقدسة.. فى مساء أحد الأيام عاد أشرف من عمله متعبا خائر القوى كعادته كل يوم لكن وجه زوجته المشرق، وابتسامتها الصافية خففا من تعبه حين أبلغته بالبشرى.. الفرحة ملأت قلب أشرف الطيب، ووعدها بأن يطلق على مولوده الأول اسم "حامد" تخليداً لذكرى والده الراحل.
أيام طويلة وقاسية قضاها فى الغربة، وهو يحمل على كاهله هموم والدته المريضة وباقى أفراد عائلته فى الصعيد، فكان كلما ادخر مبلغاً من المال، ينتهز فرصة سفر أى سوهاجى ليوصلها لهم.. فى الأعياد والمناسبات، كان يحرص على الاتصال بوالدته وأقاربه، فقد كان رمزا للرجولة والشهامة ومحافظاً على صلة الرحم، كما أوصاه وعلمه والده.. كبرت أسرته واتسع رزقه وتعاون مع شقيقيه وابن عمه فى أعمال المعمار الشاقة.
فى ذلك الصباح الباكر تأمل وجه أطفاله الثلاثة، قبلهم وهم نائمون كالعادة، ودع زوجته، ثم مر على مسكن شقيقيه وابن عمهما واتجها معا إلى مبنى تحت الإنشاء.. على الفور انهمكوا فى رفع أطنان الأسمنت والرمل إلى السقف.. بعد ساعات من العمل المتواصل أشار عليهم أشرف إلى أن يحصلوا على قسط من الراحة، ويحتسوا كوبا من الشاى.. وبينما هم ملتفون حول الموقد فإذا بسيارة فارهة تتوقف أمامهم، ويهبط منها الشاب السعودى (محمد ناصر العتيبى).. كان الشاب يهزى بكلمات غير مفهومة، ثم أخرج فجأة سلاحاً آلياً كان يخفيه فى ملابسه وأطلق عليهم الرصاص بطريقة عشوائية.. لم يمنحهم الصبى المسلح أية فرصة للهرب أو حتى للمقاومة.. تجمع المارة الذين أذهلهم الحادث، حاولوا إنقاذ الضحايا، لكن كانت إحدى الطلقات قد استقرت فى رأس أشرف فاختلط الدم بالعرق، وفارق الحياة وعلى شفتيه سؤال حائر عن سبب استهدافه وتيتيم أطفاله!!
* رئيس قسم الشئون العربية بمجلة روزاليوسف.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة