حادثان متشابهان راح ضحيتهما شابان مصريان فى أسبوعٍ واحدٍ خارج حدود الوطن، الأول فى حفر الباطن شرق السعودية، حيث لقى عامل المعمار المصرى البسيط "أشرف حامد" من إحدى قرى سوهاج مصرعه بعد أن أطلق عليه مراهقٌ سعودى النارَ من سلاحٍ آلى فى حادثٍ غامضٍ، والثانى وقع فى ميلانو بإيطاليا، حيث لقى الشاب أحمد ممدوح من إحدى قرى الشرقية مصرعه بعد مشاجرة مع مهاجرٍ من أمريكا اللاتينية فى أتوبيس عام.
الحادثان مؤسفان، ومأساويان.. فكيف تعاملت الصحافة المصرية مع هذين الحادثين؟.. أعترف بأنى بذلت جهداً مضنياً للعثور على تفاصيل حادث حفر الباطن، أو للتعرف على بيانات ضحاياه، لأعثر فى نهاية المطاف على صحف مصرية معدودة تناولت هذا الحادث على استحياء فى صفحاتها الداخلية، وفى أسطرٍ محدودة أيضاً وبدون ذكر اسم المحرر، فكأن الصحيفة والصحفى يرتكبان فعلاً فاضحاً ويخشيان من كشف أمرهما، لذلك جاء الخبر ضعيفاً لا يتناسب مع هول الحادث ولا مع دلالاته الخطيرة، حيث أطلق المسلح السعودى النار بطريقةٍ عشوائيةٍ على ثلاثة عمالٍ مصريين فاستُشهد أحدُهم بينما أُصيبَ الآخران بإصاباتٍ خطيرة.. وبحثاً عن مزيد من التفاصيل، تحولت للصحف السعودية.. بصعوبة عثرت على تفاصيلٍ حولَ الحادثِ أكثر مما نشرته الصحف المصرية، فمثلاً تعرفت على اسم وعمر المسلح القاتل وهو (محمد ناصر العتيبى عشرون عاماً) الذى تم القبض عليه بعد ساعات من ارتكابه للحادث، لكنى لاحظتٌ أن تلك الصحف قد أحجمت عن التطرق لدوافع الجريمة.. وعلى الطريقة المصرية، راح بيان لقائد شرطة منطقة حفر الباطن يصف مرتكب الحادث بأنه يعانى من مرضٍ نفسى.. ثم وصل بعد ذلك جثمان الضحية إلى قريته فى الصعيد وسط صمتٍ إعلامى مريب.
فى المقابل نجدٌ أن خبر حادث مصرع الشاب المصرى أحمد ممدوح فى ميلانو، يتصدر الصفحات الأولى لأغلب الصحف المصرية، التى أفردت له مساحاتٍ واسعة، كما أولته بعضها اهتماما بالغا حتى تم القبض على القاتل المجرم.. اللافت هنا أن الاهتمام بحادث ميلانو المحزن لم يكن قاصرا على الصحف بل حظى أيضا باهتمامٍ رسمى، حيث تقدم صفوف مستقبلى الجثمان فى مطار القاهرة، مساعد وزير الخارجية السفير محمد عبد الحكم دياب.
المتابع للحادثين يشعر بما لا يدع مجالا للشك بأن هناك ازدواجية فى المعايير تعانى منها الصحافة المصرية بكافة انتماءاتها.. هذه الازدواجية كانت واضحةً كالشمسِ فى معالجتها للواقعتين، وكأن الموت فيه تمييز بين قتيل حفر الباطن وقتيل ميلانو، على الرغم من أن النتيجة واحدة فى الحالتين حيث فقدت مصر اثنين من أبنائها، خلال صراعهما المرير بحثا عن لقمة العيش.
أما وسائل الإعلام السعودية المحلية التى وقع الحادث فى ملعبها كان لها موقف مهنى غريب، فبدلا من متابعة تفاصيل الحادث الإجرامى، ومحاولة الكشف عن سبب استهداف المراهق السعودى للعمال المصريين دون غيرهم، وكيف خطط ودبر ونفذ جريمته النكراء بحقهم، نجد أغلبها ركزت على خبرٍ، أقل ما يوصف به أنه مستفز لأى إنسان.. هذا الخبر يقول "الخارجية المصرية تشكر المملكة على تعاونها وسرعة القبض على مرتكب الحادث"!!.
لم أجد تفسيرا منطقيا لطريقة تناول الصحف السعودية للحادث، سوى أنها تعكس اهتمام السلطات بالجانب الشكلى فى علاقاتها مع مصر، بجانب حرصها على إرضاء الجهات الرسمية على حساب المشاعر الشعبية.
إذا كان هناك عذر للصحافة السعودية بعدم التوسع فى نشر تفاصيل حادث حفر الباطن الذى دفع ثمنه عمال أبرياء لاحول لهم ولاقوة!! فلا يوجد أى مبرر يمنع الصحافة المصرية من تتبع تفاصيله، على الأقل بنفس مستوى تتبعها لتفاصيل حادث ميلانو.
أدعو الباحثين فى كليات الإعلام لدراسة هذين الحادثين وطرق تناول الصحافة المصرية لهما باعتبارهما نموذجًا صارخًا للانتقائية.. ففى هذا النموذج يتضح بجلاء مدى تأثير العوامل الخارجية على شفافية الصحافة فى ممارسة دورها المهنى، بشرط أن تتضمن الدراسة مقارنة دقيقة لمواقف كافة الأطراف، بما فى ذلك سلوك مسئولى الخارجية المصرية تجاه التداعيات التى ترتبت على كل حادث، وصولا إلى استخلاص الأسباب الحقيقية لحالة الازدواجية التى تعانى منها الصحافة المصرية خاصة عندما تتصدى لقضايا تكون المملكة العربية السعودية طرفا فيها.
• رئيس قسم الشئون العربية بمجلة روزاليوسف
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة