من اللحظة الأولى التى رأيت فيها "سليمان فياض" انبهرت به: فى النصف الأول من سنوات الصعود والمد الناصرى للستينيات دخل علينا مدرس اللغة العربية الجديد فى مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية بملابسه الأنيقة ووسامة وجهه الأبيض وشعره الناعم الذى ينسدل على جبهته فيمد أصابعه بين لحظة وأخرى ليزيح خصلة الشعر المنسدلة، ولم يكن هذا الشكل "المودرن" لمدرس اللغة العربية الجديد عكس كل تصوراتنا المراهقة عن مدرس اللغة العربية كما تصوره أفلام السينما كما "عبد المنعم إبراهيم" فى فيلم "السفيرة عزيزة"، فقد كان فى الخامسة والثلاثين من العمر فقط، ومنذ اللحظة الأولى لرؤية تلاميذ الصف الثانى للأستاذ "سليمان فياض" تم ضرب الصورة التقليدية عن مدرس اللغة العربية، كانت حصة إنشاء "تعبير" وكتب الأستاذ الجديد على السبورة اسم "عدنان المدنى" وطلب أول التلاميذ فى الصف الأول أن يقف وأن يقول جملة واحدة عن استشهاد الطيار العربى على أن يقف التلميذ الذى يليه ويلقى بجملة واحدة تكمل الجملة السابقة وهكذا إلى أن نصل لنهاية الفصل على أن يكتب كل التلاميذ كل الجمل، وما إن انتهت الحصة حتى كان مع كل التلاميذ موضوعا للتعبير سوف يكمله كل تلميذ بطريقته على أن يصححه لنا الأستاذ "سليمان" فى أول حصة قادمة للغة العربية، ثم اختار ناظر المدرسة الأستاذ "سليمان فياض" ليكون رائدا لفصلنا وعليه أن يقف أمام فصلنا فى طابور الصباح، وبعد شهرين من وجوده كرائد لفصلنا تأخر خمس دقائق عن الحضور والوقوف أمامنا فى الطابور مما استرعى نظر الأستاذ "السلكاوى" ناظر المدرسة فسأل عليه فأجابه التلاميذ بأنه لم يحضر بعد لكن الأستاذ سليمان حضر مسرعا ليتخذ مكانه أمام فصلنا فاقترب منه الأستاذ "السلكاوى" ناظر المدرسة وزعق فيه فى عنف يلومه على تأخره فظل "سليمان" واقفا فى هدوء إلى أن انتهى ناظر المدرسة من تعنيفه تماما واقترب منه "سليمان" ومال على أذنه وهمس له بكلمات لم يسمعها أحد إلا ناظر المدرسة الذى رأيناه يقفز عاليا وهو يسرع فى الابتعاد عن "سليمان فياض" صارخا فى غضب عارم آمرا الأستاذ "عبد الرحمن" المسئول عن الإذاعة المدرسية بتأدية تحية العلم وإنهاء الطابور فورا، وكانت الحصة الأولى لفصلنا فى اللغة العربية ونوه التلاميذ على سؤال الأستاذ "سليمان" عن الكلمات التى قالها فى أذن ناظر المدرسة الذى اشتهر عنه العنف فى معاملة الجميع، لكن الأستاذ لم يحضر الحصة فى هذا اليوم ولم يحضر أية حصة بعد ذلك ولم يحضر أيضا أى يوم فقد تم نقله من المدرسة نهائيا، ودارت الأيام دورتها وقابلته فى عام 68 على مقهى "إيزافيتش" فى ميدان التحرير وأهديت له أول قصة نشرها لى الشاعر الكبير "صلاح عبد الصبور" فى مجلة "الكاتب" وأصبحت صديقا له ألعب معه الطاولة فى مقهى "زهرة البستان" وكان كثيرا ما يحكى قصته مع ناظر المدرسة ويشهدنى علها.
بعد سنوات من الإبداع الأدبى الرائع تنشر "دار الهلال" كتابه "أيام مجاور" والذى يسترجع فيه "سليمان فياض" فترة هامة فى بواكير حياته عندما كان طالباً بالمرحلتين الابتدائية والثانوية بالمعهد الدينى فى مدينة الزقازيق، وعن بداياته ككاتب وأديب منذ ارتدائه العمامة وعن المشايخ وعن السنوات التى كان فيها مجاورا فى الأزهر فى سنوات الأربعينات، وهو اللفظ الذى كان يطلق على الطلاب بوصفهم يجاورون الأزهر الشريف، وقيل حيث كان طالب العلم الذى يدرس بالأزهر يعتمد على شيخ يجاوره الطلاب ويحصلون منه على إجازة علمية فى آخر الصف الدراسى.
فكانت هذه السنوات "العجاف" هى التى صنعت منه هذا الروائى الكبير، يقول "الأستاذ": "أنا قاص حتى وأنا أكتب سيرتى، فلم أقدم تأريخا ببليوجرافيا مثل سيرة أحمد أمين، ولم أبد الرأى فى التجربة المعاشة مثل طه حسين فى كتابه الأيام، ولكنى عبرت عن الحياة التى عشتها، وقدمت رواية عن المكان، ورواية العائلة، رواية تسير فى خط طولى تتفرع منها خطوط عرضية وهى الحكايات، وحاولت أن أعطى صورة عن الحياة المغلقة فى مجتمع أزهرى شبابى، فأنت تعيش فى زمن وتتلقى ثقافة وهوية زمن آخر مضى، أعيش سبع سنوات كمراهق يبحث عن نفسه وهويته، وينمو جسديا وروحيا، حائر بين ثقافتين".
ويقول الكاتب الكبير "أبو المعاطى أبو النجا" صديق سليمان عن كتاب "أيام مجاور" الذى حصل على جائزة الدولة التقديرية أن الكتاب هو نوع من النميمة و السيرة الذاتية فهو تكلم عن بعض الشخصيات التى عرفها فى حياته يعرفنا بنفسه من خلال معرفته بغيره، شخصيات حية وأدبية ومعروفة وبعضهم غير معروف، أعطانا فكرة قوية عن الحياة الأدبية فى نميمة ويشرح "أبو المعاطى" ما يقصده بكلمة "النميمة"، فقال إنها نميمة لأنه تكلم عن بعض من كتب عنهم بذكر اسمه وبعضهم ذكر الحروف الأولى من أسمائهم وبعضهم ذكر صفاتهم، بعض هؤلاء الناس كانوا مهمين فى الدولة، وأن معنى كلمة "النميمة" من الناحية اللغوية منها هو الصوت الضعيف الذى يكشف عن السيرة، والأصوات الخافتة التى تخفى أشياء خطيرة هى مزيج من الأوهام والحقيقة التى تصل لها من خلال هذه الأشياء فالحقيقة دائما نستخلصها سواء من الكلام الواضح أو من الكلام النميمة وكتاب "أيام مجاور" قدم هذه المعلومات فى شكل قصصى ممتع.
عاش "سليمان فياض" طوال حياته كمجاور فى الأزهر طالبا للعلم مهتما باللغة العربية فعمل كخبير لغوى فى مشروع تعريب الحاسوب لبعض البرامج العربية بشركات الكومبيوتر العالمية فهو متخرج من "كلية اللغة العربية" وكتب عشرات السير الذاتية عن علماء وأدباء العرب فكتب كتبا عنهم مثل كتبه عن ابن النفيس، ابن الهيثم، البيرونى، جابر بن حيان، ابن البيطار، ابن بطوطة، ابن سينا، الفارابى، الخوارزمى، الإدريسى، ابن رشد، وغيرهم الكثير كما كتب عن قضايا تهم اللغة العربية كثيرا وكتب معاجم فى اللغة العربية منها "معجم الأفعال العربية المعاصرة" و " الدليل اللغوى" و"أنظمة تصريف الأفعال العربية" و"الأفعال العربية الشاذة" و"جموع التكسير" وكتب المجموعات القصصية الجميلة مثل مجموعات قصص "عطشان يا صبايا" و"وبعدنا الطوفان" و"أحزان حزيران و"العيون" و"زمن الصمت والضباب" و"وفاة عامل مطبعة" وغيرها من الروايات الهامة فى تاريخ الرواية العربية مثل "أصوات" و"الصورة والظل" ونال الكثير من التكريمات لكنه ظل طوال عمره- أمد الله فى عمره- عازفا عن التكريمات التى غالبا ما تكون لها علاقة بالتقريظ بين المكرم ومن يتفضل عليه بالتكريم، ومن جلس دقيقة واحدة مع سليمان فياض فسوف يكتشف فيه للوهلة الأولى نماما عظيما استطاع بموهبة فذة أن يحول النميمة إلى أدب عظيم، ومازلت أحلم بأن أغلبه فى الطاولة ولو مرة واحدة فى حياتى.
* كاتب وروائى مصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة