بين كل شهر وآخر وبين كل حدث وآخر وبين كل خطبة لرئيس أمريكى وأخرى يطل علينا خبر وفاة أسامة بن لادن وهو يحاط بالكثير من الغموض، ومع كل خبر أو شائعة تتطاير عن وفاة بن لادن أو تدهور صحته تعود الأحاديث مرة أخرى عن تنظيم القاعدة والرجل الذى نجح فى خداع الأمريكان وقنابلهم الذكية، ويظل الكلام دائرا حول فشل المخابرات الأمريكية فى العثور على عدوها اللدود حتى يقطع بن لادن الشك باليقين عبر تسجيل صوتى يخطب فيه بقوة ويهدد ويتوعد الأمريكان وكأن صواريخه النووية جاهزة للسقوط فوق واشنطن إذا ضغط على زرار أحمر فى كعب جزمته.. ولكن هل فكرت فى لحظة أن يكون خبر الوفاة حقيقيا؟.. يموت أسامة بن لادن وتنتهى قصته مع الحياة بقنبلة أمريكية أو بقبضة روح طبيعية.. هل فكرت فى ذلك؟ وهل فكرت كيف ستكون مشاعر المسلمين أو المصريين إذا مات بن لادن؟
أنا عن نفسى ستغمرنى مشاعر محايدة، فالرجل بالنسبة لى لم يكن سوى إرهابى متطرف ساهم فى تشويه صورة الإسلام وتدمير سمعته وأضر دينى أكثر مما أفاده وجعله هدفا سهلا لانتقادات محاربيه، وبالطبع أنا لا أقصد بحزن المصريين هنا خروج جنازات وهمية لتأبين بن لادن أو أن تدعو المساجد لصلاة الغائب على روح الفقيد وإن كنا لا نستبعد الأخيرة نظرا لسيطرة التيار السلفى الجديد على العديد من الزوايا والمساجد الصغيرة .
حزن المصريون أو دعنا نقول أغلبية المصريين على بن لادن شئ غير مستبعد فى ظل تلك التركيبة النفسية التى يتمتع بها الشعب المصرى والتى تقودها العاطفة وتسيطر عليها معانى الشجاعة والمواجهة والظلم، المصريون غنوا لأدهم الشرقاوى ولأبو زيد الهلالى وأعجبوا بخط الصعيد لا لشئ سوى لأنهم مثلوا الصورة الخيالية للبطل الشعبى الذى يمثل الواحد ضد الكل، ولم تؤثر الدراسات ومحاضر البوليس والشهادات التاريخية التى قيلت عن هؤلاء فى مقدار حب الشعبويين لهم، فالحس الشعبى غالبا مايتجاوز تلك الأشياء ويهتم بصورة الفرد الذى تصدى للقوة التى قهرت الناس وسرقت قوت عيالهم، وأسامة بن لادن يشبه كثيرا تلك الشخصيات أفتى شيوخ الإسلام فى حقه وأكدوا أنه لايدافع عن الدين بل يسئ إليه وشهد المثقفون أنه مخرب ومجرم وإرهابى ومع ذلك تجاوز البسطاء السائرون فى الشارع كل تلك الإفتاءات وتوقفوا عند مشهد فرحتهم وهم يرون برجى التجارة فى نيويورك يتهاوى وتتهاوى معه أسطورة القوى الأمريكية، تجاوزوا كل الملاحظات التى اتهمت بن لادن بالخيانة والعمالة والإرهاب وتوقفوا عند صورة البطل الشعبى الدينى الذى يواجه أكبر قوة فى العالم .
البعض من هواة التحاليل النفسية يرون أن الحزن سيكون نصيب أغلب المصريون إذا كان نبأ وفاة بن لادن صحيحا على اعتبار أن أسامة بن لادن من الشخصيات المثيرة التى تدور حولها الكثير من المتناقضات وعلى الرغم من اختلاف الفقهاء حول شرعية مايفعله إلا أن الحس الشعبى غالبا ما يكون مستقل فى تقديراته عن آراء الفقهاء والمثقفين فهو يرى أن بن لادن رمز للجهاد ومقاومة العدو الأكثر غطرسة فى العالم وهو العدو الأمريكى، وكل ما يهمهم هو البطل الذى وقف ليقاوم فى الوقت الذى انهارت فيه كل أعمدة المقاومة فى الوطن العربى، كما أن البسطاء فى الشوارع تعاملوا مع بن لادن على أنه الرجل الذى تطارده أكبر وأقوى قوة فى العالم ومعها كل أجهزة المخابرات ومع ذلك فشلوا فى لمسه أو حتى هز إصراره على مقاومتهم بل يتمتع بنفس قوته على المرواغة وكأنه من كل وقت لآخر يخرج لهم لسانه عبر شريط تلفزيونى مصور أو صوتى ولا يستسلم.
ربما يكون هذا الحزن مختلط بحالة من التعاطف والشفقة التى تم خلقها من خلال صورته فى الشريط المصور الأخير وهو هزيل وضعيف وتبدو عليه آثار الوهن والمرض ومع ذلك مازال مصرا على موقفه ومؤمن بعقيدته أيا كان موقفنا منها.
وبخلاف الحزن هناك نوع من التعاطف سيظهر بكل تأكيد عند قطاع عريض من المصريين والعرب سببه أنه فى الغالب ما يتعاطف الحس الشعبى مع المظلوم والمطارد، وأكثر الفئات تعاطفا مع بن لادن ستكون المرأة المصرية بشكل خاص والعربية بشكل عام فالمرأة بطبيعتها عاطفية جدا وحينما تتذكر أى امرأة فى العالم الخطابات التى كان يبعث بها أسامة لأمه يصف لها حبه وشوقه إليها بكل تأكيد ستثير عطف الأمهات.
الحزن الأكبر على أسامة بن لادن لن يظهر الآن طبقا لتفسيرات الطب النفسى بل سيظهر بعد الوفاة حينما يشعر البشر أن تهديد أسامة قد زال ليبدأوا فى النظر فقط إلى حياته الإنسانية وكيف أنه ترك القصور وذهب إلى الكهوف وحالة الهروب والشد والجذب مع مخابرات العالم وتفاصيل أشهر مطارد فى العالم وهو مريض بالكلى ويفتقد الأم والأهل كل تلك الجوانب الإنسانية ستعيد بن لادن للساحة بعد فترة من موته ووقتها قد يحزن عليه الناس فى الغرب قبل الناس فى الشرق.
الإجابة على السؤال إذن.. بدأت تذهب برجليها نحو كلمة نعم وقد تسير بسرعة أكبر حينما تعلم أن استطلاعات الرأى العام فى المراكز الأمريكية وفى المجلات الكبرى عن الشخصيات المهمة والشعبية والمؤثرة مازال لابن لادن فيها مكانا قد يكون تراجع إلى الصفوف الخلفية ولكنه مازال موجودا رغم ظهور نجوم غيره على الساحة.
هذا بخلاف آلاف الاستقصاءات المنشورة على صفحات الإنترنت والتى يحصل فيها بن لادن دائما على مراكز متقدمة ولا يلقب سوى بالشيخ المجاهد ونظرة سريعة لتعليقات القراء المصريين على الموضوعات التى تخص بن لادن فى المواقع العالمية تجد مثلا وفى تعليقات منشورة بموقع الجزيرة قال أحمد من مصر ( الشيخ المجاهد أسامة بن لادن إنى أحبك فى الله وأتمنى منك أن تواصل العمليات الجهادية ضد أمريكا وإسرائيل والأمة العربية تنتظر ذلك والله يوفقك لقد رفعت رأس الأمة الإسلامية بسبب الرعب الذى تعيش فيه أمريكا ياشيخنا )، محمد من مصر أيضا كتب ( بن لادن يدافع عن الأمة المذلولة المقهورة فى هذا الزمان ) وأحمد الخولى من مصر كتب يقول ( بن لادن فعلا رجل يستحق الجنة ضحى بكل ما يملك من أجل الدفاع عن العقيدة أعانك الله ياأسامة فى هذه المسيرة ) العديد من التعليقات تنصف أسامة والعديد منها أيضا يجرمه ويصفه بالإرهابى ولكن المؤكد أن الحس الشعبوى السائر فى الشارع سيظل معجب بأسامة خاصة وأن قائمة الاتهامات الأمريكية التى أصدرتها لإدانة بن لادن قائمة سيجدها الناس ياللعجب مشرفة ومصدرا للفخر فى ظل انتشار ثقافة الانتقام والعنف!
السبب الأكثر أهمية للحزن على بن لادن هو كراهية الشعب المصرى لحكامه فالناس فى مصر سيحبون ويحزنون على بن لادن لأنهم يكرهون السلطة التى تكره بن لادن، فنحن عادة نحب مايكرهه حكامنا أما الشى الوحيد الذى سيؤثر على التعاطف مع بن لادن هى تلك العميات التى تقتل الأبرياء فى كل مكان تحت مسمى الدفاع عن الإسلام والإسلام منها ومن بن لادن برئ مهما كان نوع النوايا التى تسكن صدره.