د. بليغ حمدى

ليلة رحيل الإمام الأكبر

الخميس، 11 مارس 2010 07:03 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
رحل فضيلة الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوى، شيخ أقدم مؤسسة دينية رسمية فى العالم العربى والإسلامى، عليه الرحمة إن شاء خالقه، وله الغفران إن أراد بما قدم الإمام واجتهد، وبما أصاب فيه وكان للإسلام عونا وبراً. جاءت ساعة الرحيل كما أراد الله وشاء فى المملكة العربية السعودية، كما سبقته ساعة المجدد والإمام والداعية الحر غير المؤسسى والتربوى الشيخ محمد الغزالى شيخ دعاة العصر الحديث بالسعودية أيضاً، ونال شرف دفنه بالبقيع بجوار الصحبة الأخيار الكرام البررة.

رحل الإمام طنطاوى بعيداً عن ساحات الجدل الدينى والفقهى، وبمنأى عن إدخال كل أمر فى حياتنا تحت مظلة التدين الشكلى غير الجوهرى. وليست هذه السطور محاولة تأبين أو اجترار لبعض ملامح سيرة هذا الرجل ـ أقصد شيخ الجامع الأزهر ـ فقد رحل عن دنيانا واستراح من متناقضاتها المستعرة والمسعورة، ممتطياً أفكاره الجدلية والفريدة، ومؤلفاته الحصرية، وفتاويه الأكثر جدلاً، ومساجلاته الفكرية والدينية الأكثر دهشة وانفراداً متجهاً إلى ربه.

وما أجمل اللقاء بالله دون منصب أو مكتب أو زى رسمى أو حتى بروتوكولات سياسية، نجد فيها أنفسنا أمام الله الواحد، حيث ينفع العمل الصالح والدعوة الصادقة والعلم النافع، وجميل قول الله تعالى (ولا يظلم ربك أحدا).

ومما لا يناقض اليقين أنه عند الموت تتلاشى كل نقاط الخلاف والنزاع الفكرى والمذهبى، وتذوب كافة محطات الاختلاف والتباين الفقهى مع فضيلة الإمام الأكبر، وتبقى فقط حالة الاحترام للراحل، والتقدير لقامته ومقامه.

ولا شك أن الإمام الدكتور محمد سيد طنطاوى قد غادر المؤسسة الدينية - التى وكثيرون غيرى - انتقدوا أوضاعها وسياساتها وخطابها الدينى، علاوة على انتقاد السيد الرئيس مبارك ـ متعه الله بالصحة والعودة لوطنه سالماً غانماً ـ للخطاب الدينى الرسمى، مخلفاً وراءه الإمام فراغاً كبيراً وطويلاً، لأن مصر اعتادت منذ سنوات بعيدة إهمال إعداد صف ثان لقياداتها.

لذلك تجد فى مصر حالات مستمرة من الدهشة والقلق والحيرة والتوتر وربما انعدام التوازن إزاء رحيل أى رمز أو مسئول أو علامة مميزة، رغم أننا نعلن صباح مساء بأننا دولة مؤسسات، ومع ذلك نحتار فى اختيار أو تعيين من يخلف رمزاً شعبياً أو وزيراً أو إماماً.

والعلامة الفارقة فى حياة هذا الرجل هى الإثارة وحدها، لا أقصد إثارة الفتنة والبلبلة واللغط بين العامة والعموم والنخبة والصفوة، بل أقصد بها طرق الأبواب الموصدة، واقتحام المناطق المحظورة فقهياً بسياج ودرع وسيف حصيف من الاستنارة والتنوير. ومن الأمور العجيبة أن صاحب الفضيلة الإمام الأكبر كان رجلاً مستنيراً بحق، وحمل بداخله كل طاقات التجديد والاجتهاد، ورغم ذلك ظلت القيادات والدعاة التابعين له تحت نير الجمود والرجعية وتقليد السلف دون فلسفة تفسر ذلك التقليد أو تؤوله.

وخبرتى العملية بالأزهر الشريف ومؤسساته التعليمية تصيبنى بالحيرة وربما الجنون، حينما كنت أرى هذا الشيخ مجتهداً ومعاصراً لقضايا أمته، إلا أن تلك المعاهد التعليمية لاتزال تعيش فترة العصور الوسطى، وتنتهج فكر العهود المملوكية والأيوبية والإخشيدية المنصرمة.

فيكفى لصاحب الفضيلة ـ ونحن لسنا بصدد تحليل وتقييم مواقفه وأعماله ـ أن تتطرق لقضايا شائكة مضطرمة كالنقاب وشرعيته ومازالت القيامة قائمة حتى الآن بعد إعلان رأيه فيه، واستثمارات البنوك، والقروض التى تقدمها الجمعيات الأهلية، وآرائه فى حكم تبرع المسلم لبناء الكنائس، فهو بحق ـ رحمة الله عليه ـ رجل مثير للجدل والتأويل.

وبخلاف رأى إخواننا السلفيين وعشيرتنا من المتشددين دينياً، وذوينا من المتهوكين فقهياً حول فضيلة الإمام الأكبر إلا أن مساجلاته الفقهية المكتوبة ومؤلفاته العلمية الدينية خير دليل على قوة ومتانة علم هذا الرجل، ومن الصعب أن تجد هذه الآونة رجلاً قادراً على تقبل الآخر والتعايش معه وإظهار السماحة والتسامح مثله، بالإضافة إلى أنه ندر فى هذا الزمان من يجيد الحوار والتحاور بالحجة والدليل العقلى من أولئك المختلفين معه فكرياً وتوجهاً.

والمؤسسة الدينية الرسمية أقصد الأزهر الشريف وهيئاته التابعة ستواجه قدراً محموماً بعد رحيل صاحب الفضيلة عنها، فتزداد التكهنات حول خلافة الدكتور طنطاوى، وستتحمل المؤسسة أموالاً هائلة لتغيير ملايين الكتب الدراسية التى تحمل اسم الإمام الأكبر كمؤلف لها، رحم الله الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى، اجتهد وأعطى فكراً وفقهاً وعلماً قدر استطاعته، ورحمنا الله بالإسلام.

• أكاديمى مصرى.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة