بمجرد نشر مقالى السابق الذى تناولت خلاله، موجة الأزمات المتلاحقة التى هبت على مصر فى الفترة الأخيرة، فإذا بسيل من الاتصالات يعاتبنى أصحابها على تجاهلى قضية النقص الشديد فى بعض أنواع الكيف.. هذا النقص - على حد وصفهم - ترك آثاراً سلبية على مزاج تلك الفئات، مما جعلهم يقضون أغلب أمسياتهم فى نكد دائم!!
تصورت فى البداية أن المعاتبين يمزحون وأنهم يرغبون فى الزج بقضايا هزلية على مائدة الحوار للتخفيف من سخونة النقاشات الجادة التى طرحت نفسها بقوة على أحاديث معظم المصريين منذ أسبوعين.. من خلال النقاش اكتشفت أنهم جادون، وأن فئات متنوعة من المجتمع تعانى بالفعل من حالة "عكننة" وقلق.. المدهش أن هذا القلق ليس بسبب السيناريوهات الغامضة التى تنتظر مصر، بقدر قلقهم على طول فترة شح "الكيف" وارتفاع أسعاره، فى ضوء التشديد غير العادى على تداوله فى السوق خلال تلك الفترة.
أحدهم أبلغنى بأنه متعاطف فعلاً مع المنتظرين فى طوابير الخبز والسولار والبنزين المدعم، لكن هذا التعاطف لا يلغى شعوره بالمرارة عندما يأتى المساء ويجد رأسه بلا تركيز، ومزاجه سيئا للغاية، حيث تفشل "فناجين" القهوة المتتابعة فى ضبطه وإعادته إلى وضعه الطبيعى.. محدثى شعر بالغضب الشديد عندما سخرت من مبالغته بشأن مسألة نقص "الكيف" ومنحها أولوية توازى مكانة الخبز والسولار.. كما لفت نظرى بأن نقص الكيف واكبه تراجع مستوى وحجم إنتاج النكتة السياسية وأن الناس أصبحوا مكتئبين أكثر من اللازم، ملمحاً من بعيد بأن هناك قصدا فى تحجيم إنتاج هذا النوع من السخرية التى تنطلق عادة من وسط "غرز" الكيف!!
عبر نقاش مفتوح تحريت الأمر مع بعض من قابلتهم فى مواقع ووظائف متنوعة، فأفزعنى شاب يعمل مترجماً فى إحدى المؤسسات الهامة عندما صارحنى بأنه أصيب بصدمة بعد أن توقف الشخص الذى اعتاد على تزويده بحصته من الكيف بشكل منتظم.. هذا الشاب بدأ فى البحث عن طريقة إنتاج وتصنيع احتياجاته يدوياً، حيث عثر على عدد من الدراسات والأبحاث التى تشرح طرق تصنيعه منزلياً بطريقة سهلة ومبسطة.. وأخذ الشاب يشرح لى بجدية مكانة هذا "الكيف" فى حياته وحياة آلاف الشباب من أمثاله، وأن شحه وارتفاع سعره يجعلهم فى اضطراب مستمر.. وبخفة دم المصرى المعهودة ذكرنى بالنكتة التى تقول أن ضابطاً كان يقف فى كمين ليلى بأحد أحياء القاهرة الشعبية أنزل الركاب وبدأ فى تفتيشهم، فلاحظ أن رجلاً يمسك بيده كيساً أسود وسأله ما هذا؟ فرد الرجل "كيف"!! فوبخه الضابط قائلاً أترضى مزاجك وتهمل متطلبات أسرتك، فابتسم الرجل قائلاً: لا هذه حصة الأسرة فقد استهلكت نصيبى فى المقهى مع أصدقائى؟
بشكل مباغت سألنى الشاب خفيف الظل، هل البلد مقدم على مفاجأة؟ رديت عليه بسؤال ما الذى أعطاك هذا الانطباع، رد بسرعة لدى إحساس قوى بأنهم يريدون إيقاظ الشعب وتهيئته لتقبل أمر مهم، وغير عادى، خاصة أن أزمة نقص الكيف الحالية "مفتعلة" ولا يمكن أن تكون صدفة لأن "الصنف" متوافر بمخازن تجار الجملة الذين يتمتعون بقدر هائل من الجبن والرعب، ولا يجرؤن على عصيان ما يصدر لهم من إشارات عبر جواسيسهم وعيونهم المدسوسة فى قلب أجهزة الأمن المسئولة عن مكافحة أنشطتهم غير المشروعة.
بالفعل أبلغنى آخر أن "البضاعة" متوافرة بالأسواق لكن لا يجرؤ أحد على طرحها للأسواق.. فمن يغامر ويعمل بعكس إشارات التحذير، يحق عليه أن يدفع ثمناً باهظاً، فالجميع يؤثر السلامة وينفذ تلك الإشارات بحذافيرها، لضمان الاستمرار فى نشاطه وتحقيق مكاسبه التى تقدر بالملايين.
عندما تناولت قضية نقص الخبز والسولار، كان هدفى الرئيسى البحث عن أسباب ظاهرة الأزمات التى تمس جوهر حياة عموم الناس، ومعاناتهم اليومية فلم يكن يخطر على بالى أن هناك شريحة ليست هينة تعانى هى الأخرى لكن من عدم توافر الكيف بالأسواق!! فإذا كان الأمر بهذه الخطورة، انتهز الفرصة لألفت نظر زملائى فى أقسام التحقيقات لرصد هذه الظاهرة وبحث أسبابها المعروفة للجميع ودراسة الظروف التى دفعت بشباب مصر إلى هاوية الإدمان ومستنقع "المخدرات" بهذه الصورة المفزعة؟!! الكارثة أن يخرج علينا مسئول يزعم أنه لا توجد أزمة فى "الصنف" وأن الحصص توزع على التجار بانتظام وأن كل ما يشاع حول نقصها بالأسواق ليس سوى محض افتراء من أصحاب الكيف!!
* رئيس قسم الشئون العربية بمجلة روزاليوسف.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة