فى سنوات الصحوة الشعبية الأولى تلك التى انحصرت بين العامين 2000 و2005 كانت شوارع مصر تفيض بمظاهرات ساخنة، صحيح كانت مظاهرات تعانى من سوء تغذية نخبوية وجفاف فى الوعى ولكن صدقها وحماسها وفورانها وقدرتها على نفض الغبار عن الحياة السياسية المصرية وفتح الباب أمام الشباب للمشاركة والتفاعل غطى على كل شىء.
صيغة مشرفة اختارها الشعب المصرى ليعبر بها عن نفسه فى تلك السنوات الخمس عبر جماهير تتظاهر فى الليل وفى النهار، فى عز الحر وتحت المطر وتعلو بهتافات قاسية وشجاعة، وتعود للتظاهر مرات ومرات رغم تحرشات الأمن وقسوة عصيان الأمن المركزى، لترسم للشعب المصرى صورة نضالية جديدة يمكن ضمها لمتحف تاريخ كفاحه العريض ضد الظلم بكل أنواعه.
تفاصيل تلك الصورة بدأت فى الاختفاء التدريجى بعد الانتخابات الرئاسية للعام 2005، وكأن صحوة المعارضة فى مصر موسمية تسبق الانتخابات وتعيش أجواءها وتموت بعد أن ينتهى الفرازون من تفريغ بطون الصناديق الانتخابية بالبلطجة أحيانا وبالتزوير أحياناً أخرى.
تلاشت تفاصيل الصورة وضاع الكثير من ملامح الجماهير التى زلزلت أرض ميدان التحرير وسلالم نقابة الصحفيين، لصالح صيغة جديدة وصورة أخرى لجماهير جعلت من نفسها «تشريفة» ترقص وتهتف وتصفق أمام صالات مطار القاهرة، قارن بين جماهير 2005 وجماهير 2010 وستجد فرقاً شاسعاً.. فى 2005 كنا ننشر أخبارا عن مظاهرة هنا ومواجهة مع الأمن هناك، وفى 2010 ننشر كل يوم خبرا عن جحافل شعبية تزحف إلى المطار مرة لاستقبال حسن شحاتة، ومرة لاستقبال علاء وجمال عائدين بصحبة المنتخب، ومرة لاستقبال الدكتور محمد البرادعى ومرة لاستقبال شوبير أمام قاعات المحكمة، ومرة للهتاف لهشام طلعت مصطفى بعد حكم النقض، وأخيراً لاستقبال رجل الأعمال العائد رامى لكح، هذا طبعا بخلاف جهابذة الحزب الوطنى الذين تكلموا عن تجهيز استقبال شعبى حاشد للرئيس بعد عودته من رحلة العلاج.
تشريفة المطار هى الموضة السياسية للعام 2010 إذن.. أن يقف المصريون مصفوفين على جانبى طريق المطار أو أى طريق آخر هاتفين لكل شىء وأى حد طالما المصلحة اقتضت ذلك، أن يكتفى المصريون بالتصفيق الحاد والهتاف الحار على جنبات الطرق أو بمعنى أصح أن يكتفى المصريون بالمشاهدة والتشجيع من على الدكة.
المثير هنا أن كل «تشريفة» يتوقف حجمها ومدى صهللتها وجلجلتها على قدر الاستفادة من أصحابها، بدليل فوز رامى لكح وهشام طلعت مصطفى بالتشريفة الأكبر حتى الآن، قارن بين أعداد من ذهبوا لااستقبال البرادعى فى المطار وبين من ذهبوا لاستقبال رامى لكح وستدرك وقتها أن الكلمة العليا فى البلد مازالت للقمة العيش، لمن يفتح البيوت ويدفع مرتبات آخر الشهر ويساعد على تسديد أقسام المعيشة وليست للإصلاح السياسى والديمقراطى، وفى ذلك الأمر دلالة واضحة تعجز النخبة المصرية عن رؤيتها، ربما لأنها بالفعل نخبة مزيفة تتكلم عن شعب لا تعرفه.. شعب يعانى فى البحث عن لقمة العيش ومع ذلك لا يرحمونه ويسعون لتحميله عبء المطالبة بالإصلاح والنضال من أجل التغيير، قبل أن يقوموا بدورهم فى تثقيف هذا الشعب وتوعيته بمعنى الإصلاح وعوائده المستقبلية التى قد تجنبهم معاناة البحث عن لقمة العيش.