"الإنسان العربى يا أخ سعيد لا يزال يرى مصر السيد عند العوز والنصر للحق، وعايشت الكثير منهم وهم فى أعمار مختلفة، ووجدت نفس المشاعر الواعية والواعدة، وكل ما هنالك أن الآلة الإعلامية صنعت قشرة مزيفة، يمكن إزاحتها بسهولة لو توحدت الجهود وصدقت النوايا".
الكلمات السابقة ذكرها الدكتور عبد اللطيف محمود فى تعليقه على مقالى "بن بيلا والقاسمى"، ولا أذكرها لمناقشة أهميتها، ولكن لأنها من إنسان هو معلم لى ينطبق عليه قول الشاعر: "قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا"، وليسمح لى القارئ أن أنتهزها فرصة للحديث عن هذا الإنسان الرائع، الذى يعمل الآن أستاذا فى الدراسات التربوية بجامعة حلوان.
كنت فى الثانوية العامة فى مدرسة طوخ الثانوية بمحافظة القليوبية فى نهاية سبعينات القرن الماضى، ابحث عن طريقى، والأمل يحملنى إلى غد أتصوره أنه سيعطينى كل ما أحلم به، وكنت أبحث عن إجابات لأسئلة تشغلنى فى السياسة والثقافة والفلسفة ومجال الفكر عموما، حتى فوجئت وفوجئ معظم زملائى فى ثالثة أدبى بأستاذ شاب للفلسفة يدخل علينا اسمه سامى السهم، لا أعرف أين هو الآن؟.. كان سامى السهم فارع الطول، نموذجا لمدرس من نوعية مختلفة عما ألفناه، قويا فى مادته العلمية وشخصيته وطريقة تدريسه، وبدأت معه فى ضخ الأسئلة التى تشغلنى وكان يقدم لى الأجوبة والنصيحة حتى تم نقله فجأة إلى مدرسة المعلمين ببنها، وحزنت لظنى أننى لن أجد مثله.
لكن القدر كان يخبئ لى مفاجأة أجمل، وهى أن الأستاذ البديل صنف آخر فى تكوينه الشخصى، قويا دون افتعال، بسيطا دون تنازل، مؤثرا على مهل، كان عبد اللطيف محمود هو المدرس الذى أهدتنى وزارة التربية والتعليم به، بعد نقل صديقه وقتئذ سامى السهم، كنت انتظر حصته حتى أسمع منه شرحا جميلا فى الفلسفة وعلم النفس، والأجمل ما كان يقوله من خارج المقرر من معلومات فى التاريخ والفلسفة والمنطق والثقافة بوجه عام، وكنت أجرى بحثا عنه فى فترة الفسحة وكانت تزيد عن الساعة لمعرفة المزيد، فيقودنى إلى مكتبة المدرسة، وفيها وبفضله قرأت مؤلفات لفلاسفة مثل هيجل وكانط وديكارت وآخرين، وللحقيقة، كنت فى كثير من الأحيان لا أفهم بما فيه الكفاية تلك النوعية من المؤلفات، لكنى فى النهاية أفهم المحتوى العام، ومن الفلسفة إلى الأدب كان يشير لى إلى أدب يوسف إدريس ويحى حقى ونجيب محفوظ، ويطلب قراءة ما أستطيع قراءته، ويصاحب كل ذلك مناقشات ثرية كان يشارك فيها أمين المكتبة الأستاذ سيد صبيح الذى لا أعرف أين هو الآن؟
كان عبد اللطيف محمود هو معلمى بامتياز، وهو الذى أعطانى خطوطا عامة لفهم قضية لم أكن أفهمها بما فيه الكفاية وقتها وهى قضية توقيع كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل، والذى نبهنى الى مخاطره التى هى حادثة الآن، والأهم أننى بفضله دخلت الجامعة دون أن أشعر بنقيصة معرفية، بل كنت أفتخر أمام زملائى برصيدى الثقافى الذى دخل أولى خطوات نضجه بفضل أستاذى عبد اللطيف محمود.
قبل انتهاء موسم الدراسة الثانوية زودنى بعنوانه، وبعد التحاقى بجامعة القاهرة، حرصت على التواصل معه، ودخلت بيته وأكلت من طعامه، حتى انقطعت الأخبار وبعد تخرجى من الجامعة، وتواجدى فى حقل العمل السياسى والصحفى وجدته كاتبا مرموقا فى بعض المجلات، وضيفا فى مؤتمرات سياسية، نزيها كعادته فى آرائه وقناعاته القومية العروبية، ورأيته صديقا لأصدقاء لى، وفى كل مرة كنت حريصا على أن أقول للآخرين إنه معلمى، مثلما أفعل الآن وأقول.. هذا معلمى الذى أفتخر به، وجاءت الفرصة لكتابة ما تيسر عنه، فهو يستحق أكثر وأكثر.