كان يساورنى الأمل فى أن الأمة العربية مازالت تنبض بالحياة، وأن الراحل نزار قبانى قد أخطأ فى حقنا جميعا عندما صدمنا بقصيدته الشهيرة "متى يعلنون وفاة العرب؟" فى عام 1994، حينها تعرض الشاعر الكبير لحملة مسمومة، أثارت الشكوك من حوله.. كنت واحدا ممن يشككون فيما ذهب إليه نزار، فقد كانت الآمال تراودنى فى أن الأمة لم تمت بعد وأنها قادرة على تجاوز نكباتها مهما كانت الصعاب، حتى جاءت قمة سرت التى أنهت أعمالها قبل ساعات فى ليبيا، فرسخت بداخلى روح اليأس من التغيير للأفضل، وأثبتت صدق ما دونه نزار وفضحت زيف أحلامنا الجوفاء.
الانطباع الأول عن تلك القمة أوحى إلى بأنها قمة عربية بنكهة تركية، فالإجواء التى أحاطت بها، لا تخلو من لمسات تركية.. التنظيم تركى، الطعام، والخدمات، والمبانى، وتجهيزات الفنادق والفيلات الرئاسية والملكية كلها اتخذت الطابع التركى حتى مستقبلى الوفود كانوا فرق من الشباب والفتيات الجميلات أتت بهن الشركة التركية التى فازت بعقد تنظيم القمة من جبال الأناضول الشاهقة.. ثم جاءت مشاركة رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان وكلمته الارتجالية المؤثرة لتكلل الحضور التركى الطاغى، فصبغ القمة العربية بالصبغة التركية.
كما كان حضور أردوغان لافتا فى قمة سرت كان الاقتصاد التركى هو الفائز الأول فى تلك القمة أيضا حيث يقدر حجم الأموال التى أنفقتها السلطات الليبية على الاعداد والتجهيز للقمة حوالى 300 مليون دولار أمريكى 90% من هذه المبالغ ذهب مباشرة إلى الخزانة التركية، واستفاد آلاف العمال الأتراك من إلغاء التأشيرات بين ليبيا وبلادهم، وتدفقوا بأعداد كبيرة صوب المدن الليبية للعمل فى مختلف المشروعات التى نفذتها شركاتهم مؤخرا بالجماهيرية استعدادا للقمة.
كلمات الزعيم التركى أمام القمة العربية لم تأت خالية من المضمون كما عودنا زعماؤنا فى مثل هذه المحافل، بل سبقت كلماته الأفعال فقد دخلت بلاده فى معركة دبلوماسية شرسة مع الإحتلال الإسرائيلى مؤخرا، انتهت باعتذار قادة العدو للحكومة والشعب التركى، كما يرعى الأتراك بحرص المفاوضات المحتملة بين سوريا وإسرائيل، فضلا عن تطبيق الحكومة التركية اجراءات جريئة نحو الانفتاح على العالم العربى، جسدتها قرارات إلغاء كافة القيود المفروضة على دخول مواطنى كل من سوريا والأردن ولبنان وليبيا و البقية تأتى حيث تستعد لإستكمال مسيرة التعاون والاندماج الكامل مع محيطها العربى والإسلامى.
اللافت أن الإجراءات التركية الأخيرة ربما ظلت تمثل حلما بعيد المنال لأغلب الشعوب العربية المتلاصقة والتى ترتبط شعوبها بحدود مشتركة وتجمعهم علاقات مصاهرة ومصالح أكبر بكثير مما يربطها مع تركيا البعيدة .
لقد نجح أردوغان فى اختطاف الرأى العام العربى والإسلامى خلال كلمته القصيرة التى دعا فيها إلى إقامة تحالف عربى تركى إسلامى يرد على محاولات تدنيس المقدسات الإسلامية فى القدس الشريف والعمل على بناء مستقبل مزدهرا للمسلمين.. كان رئيس الوزراء التركى مؤثرا حين قال "لايختلف مصير إسطنبول عن مصير القاهرة ولا سرت عن القدس، ولا عن أى بقعة من ديار المسلمين، فعقيدتنا لا تجعلنا أصدقاء فقط، بل أخوة وأشقاء فقد دونا معا التاريخ الغنى لهذه المنطقة ويجب أن لا يشك أحد اننا سندون معا المستقبل المشرق لأبنائها ".
لقد تجلت شجاعة وصدق أردوغان وهو يطرح قضية تهويد القدس من منظور انسانى، رابطا بين تحريرها من سيطرة المحتل المغتصب وبين الاستقرار فى فلسطين والشرق الأوسط بأكمله، ولم يقتصر دفاعه عن عروبة القدس، بل انتهز وجود ممثلى الهيئات الدولية والشخصيات الأوربية والعالمية، ودعا القادة العرب بكلمات تملؤها الثقة ولا ينقصها الاعتزاز بالنفس قائلا "تعالوا نحطم الأحكام المسبقة ونغير الصور والأفكار الخاطئة المتعلقة بنا.. تعالوا نبنى معا مستقبلا يقوم على تعاون الحضارات لا على تصادمها وصراعها، وبهذا لا أحد يستطيع إلصاق تهمة "الإسلاموفوبيا" بنا مرة أخري.. وبذلك من يوجه إلينا أصابع الاتهام يكون قد ارتكب بحقنا جرائم ضد الإنسانية.. بهذه الروح الوثابة والنظرة الثاقبة تجاه المستقبل نجح أردوغان فى خطف الأضواء من القمة العربية واستحق عن جداره أن يكون نجمها المتألق متفوقا على أغلب القادة العرب.. السبب أنه ربما يكون الزعيم الوحيد المنتخب داخل القاعة!!
* رئيس قسم الشئون العربية بمجلة روزاليوسف.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة