قضيت وقتاً طويلاً خلال الأيام القليلة الماضية - التى استعدنا فيها جميعاً ذكريات الصيف "الملتهبة"- فى منتصف ميدان التحرير فى انتظار تاكسى ينقذنى من هذا اللهيب وينقلنى إلى جريدة الأهرام، وكان ذلك حوالى الساعة الثانية ظهراً والزحام على أشده.. كنت أنوى ركوب تاكسى أبيض هرباً من جشع سائقى التاكسى الأسود، وتلافياً لخلاف معتاد على الحساب فى نهاية محطة الوصول، وفجأة وقف أمامى تاكسى "أسود" دعانى سائقه للركوب.. حاولت مقاولته قبل الركوب ولكنه قال لى "ادفع اللى تدفعه".. اندهشت لطيبة الرجل واستسلامه، ولم أتردد فى الركوب.. السائق بدا فى منتصف عقده السادس وكان فى غاية اليأس والحزن، مما صار إليه حال البلد من زحام وعشوائية وخلافه، وفى الطريق حاول صبى أن يوقف الرجل لكى يستقله إلى مكان ما فتجاهله السائق تماماً، وهو يقول "هى ناقصة كمان بتوع البنطلونات الساقطة!".. ضحكت، فاندهش الرجل لضحكى وقال لى: "أقسم بالله إذا كنت أعرف أننى سأضحى بعمرى فى حرب أكتوبر من أجل هذا الجيل، لما حاربت".. سألته: هل شاركت فى هذه الحرب العظيمة؟ قال: أيوه، ولكن لم أتخيل يوماً أننى أحارب لأدافع عن جيل يرتدى البنطلونات الساقطة.
استوقفتنى هذه الجملة كثيراً، وتساءلت فى نفسى: هل قدم هذا الرجل وأمثاله حياتهم ثمناً لتحيا أجيال جديدة – ذوى بنطلونات ساقطة - هذه الحرية والحياة الكريمة؟!
طبعاً الرجل لم يكن نادماً على دفاعه عن وطنه.. إطلاقاً فهو يحمل على جبينه شرف هذا الدفاع إلى يوم الدين، لكنه نادم على ما وصل إليه حال شبابنا، فبنظرة أكثر عمقاً نجد أن الرجل محق، فمصر التى أنجبت أجيالاً من المبدعين والعلماء ورجال الفكر والثقافة، انحدر بها الحال إلى "جيل البنطلون الساقط".. جيل كل همه وشغله الشاغل هو إبراز ألوان "البوكسر" الزاهية وأحدث ما وصلت إليه الموضة فى هذا الجزء من الجسم، مع "لوك" غريب سواء فى الشعر "المدبب" وسلاسل الرقبة واليدين، والتفنن فى تكوين لغة غريبة يتواصلون بها فيما بينهم دون أن يكشف رموزها من حولهم، سواء أهلهم أو الغرباء عليهم.. إنه حقاً جيل بلا هوية أو انتماء لا يعرفون معنى أنهم رجال المستقبل، ولا يدركون أنهم أحفاد رفاعة الطهطاوى.. طه حسين.. نجيب محفوظ.. أم كلثوم.. محمد عبد الوهاب.. صلاح جاهين، وغيرهم الكثيرين، لأنهم إذا أدركوا أهمية ذلك فسوف ينقلب الحال تماماً، ولكنه فى الحقيقة جيل "ساقط" فى كل اهتماماته.. جيل بلا علم.. بلا فن.. بلا أدب.. بلا ذوق.. بلا شهامة.. بلا مروءة.. بلا نخوة.. وبلا حتى صحة، فهم يتفنون فى تعاطى المغيبات عن الوعى إمعاناً فى "السقوط".. أندهش حقاً لأمر هذا الجيل والواقع أنهم ليسوا مسئولين عما هم فيه مسئولية كاملة، لأن لهم أسر وعائلات تركتهم لتيار الانحدار، وانشغلوا بهلع جلب المال الذى سينفقه أبناؤهم بعد ذلك كيفا يشاءون، والغريب أيضاً أن المدارس فقدت دورها التربوى فى تقويم هذا الجيل، فأتذكر حينما كنت فى المدرسة لم يكن أحد منا يجرؤ على ترك أظافره بلا تقليم، خوفاً من عقاب مدرس الفصل ومدير المدرسة.. اليوم أشاهد طلاب المدراس بلا زى، وبلا أى شىء يدل من قريب أو بعيد إلى كونهم تلاميذ أو طلاباً حتى فى الجامعة، لأنه من المفترض أن طلاب الجامعة يعرفون معنى اعتمادهم على أنفسهم وبناء مستقبل وطنهم بعد شهور قليلة.
أدعو أبناء الجيل الساقط إلى متابعة شعوب حمل شبابها على عاتقهم عبء النهوض بوطنهم، ولن يبذل جيلنا "الساقط" جهداً فى ذلك، فالصينيون صاروا يدخلون كل بيت فى مصر، أطفال وشباب ونساء ورجال.. إنهم شعب قرروا الحياة بكرامة والكرامة فى العمل والعمل طريق النهضة والنهضة أسرع طريق لقوة الأمم.. أدعو جيلنا "الساقط" لقراءة سيرة الرئيس البرازيلى لولا داسيلفا؛ ذلك العامل فى أحد المناجم، الذى جعل بلاده جنباً إلى جنب مع الدول الصناعية الكبرى التى تعتمد فى اقتصادها على التصدير.. أدعوه لقراءة سيرة الزعيم الجنوب أفريقى نيلسون مانديلا، الذى استطاع أن يهزم العنصرية وألف بين السود والبيض فى بلاده بسلاح كرة الرجبى، رغم قضائه فترة طويلة بالمعتقلات السياسية.. أدعوهم لقراءة سير كل من تسبب فى عمل نقطة تحول ببلاده.. غاندى.. عمر المختار.. عبد القادر الجزائرى.. علماء مصر الأجلاء مصطفى مشرفة.. أحمد زويل.. مصطفى السيد.
أتمنى أن يبحث هذا الجيل عن مثل أعلى يحتذى به، ليس مهماً أن يكون شبيهاً به، ولكن المهم أن نخطو خطوة نحو التقدم، ولابد أن ندرك أنه لن يتحقق إلا بهذا الجيل، وأتمنى أن يختفى لقب جيل البنطلونات الساقطة قبل أن يشب ابنى ويصير هؤلاء الشباب رجالاً يضطر إلى الاحتذاء بهم.
كاتب صحفى بالأهرام
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة