ثلاث مراحل متباينة حكمت التوجهات السياسية المصرية فى تعاملها مع دول حوض النيل منذ استقلال الدولة المصرية عام 1952، أولى هذه المراحل بالطبع مرحلة "التمدد والنفوذ" التى ميزت العهد الناصرى، حيث شهدت العلاقات المصرية الأفريقية عموماً والعلاقات المصرية مع دول حوض النيل زخماً كبيراً على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية أيضاً.
كانت المساندة المصرية لحركات التحرر الأفريقية بالمال والسلاح والدعم السياسى سنداً بدورها ،للمصالح المصرية فى أفريقيا والعالم، ومن خلال هذه المساندة استطاعت الدولة المصرية تعميق نفوذها فى القارة كلها، كما استطاعت احتكار تمثيل القارة فى مجلس الأمن لسنوات طويلة وبناء علاقات اقتصادية قوية للغاية بحيث شكلت الدول الأفريقية السوق الأولى للمنتجات المصرية، وفضلاً عن ذلك كله استطاعت الإدارة المصرية إنجاز أمرين فى غاية الأهمية، التفاتاً إلى أهمية دور مياه النيل فى مشروعات التنمية المنشودة .
الأمر الأول إنجاز اتفاقية 1959 بين دول حوض النيل التى بمقتضاها تحددت حصة مصر من المياه بـ55 ونصف المليار متر مكعب، وهى حصة ضمنت الوفرة المائية لبلد تعداده لم يكن يتجاوز 20 مليون نسمة، كما تضمن استمرار مشروعات التنمية الصناعية والزراعية ،أى أن نصيب الفرد كان عندئذ 3000 متر مكعب سنوياً مقابل 700 متر مكعب سنوياً حالياً
أما الأمر الثانى فهو الالتفات إلى ضرورة تخزين مياه النيل فى مصر لتفويت الفرصة على الدول الأوروبية المسيطرة على منابع النيل (إنجلترا وبلجيكا وألمانيا وايطاليا آنذاك) من أن تعوق خطط التنمية المصرية، وكان أن تم التخطيط وإنشاء السد العالى.
تغيرت البوصلة المصرية تجاه أفريقيا تماماً مع تولى الرئيس السادات وبدأت المرحلة الثانية "مرحلة القطيعة" مع القارة السوداء وتجاهل المصالح المشتركة والبالغة الأهمية مع دول حوض النيل تحديداً، تدريجياً تآكلت الأسواق المفتوحة فى القارة السمراء، ولم نعد نشهد الجرارات الزراعية المصرية ولا الملابس المصرية ولا الأحذية المصرية فى متاجر أوغندا وإثيوبيا وكينيا، وحل الجفاء السياسى محل علاقات الاحتواء لدرجة تهديد الرئيس السادات علناً باستخدام القوة العسكرية لإجهاض أى محاولة لبناء سدود الأنهار المغذية للنيل فى أثيوبيا.
كانت البوصلة السياسية فى "مرحلة القطيعة" تحرص على إلغاء الصورة المصرية المؤيدة لحركات التحرر الأفريقية ربما لتحقيق مصالح فورية لدى القوى الغربية المؤثرة لكن إلغاء تلك الصورة ترافق معه قطع شرايين المصالح المصرية الاستراتيجية مع دول الحوض وترك المجال واسعاً لقوى معادية لبناء وجودها هناك خلفاً للوجود المصرى.
بعد 1981 التفتت الإدارة المصرية على استحياء لضرورة، وصل ما انقطع من علاقات مع الدول الأفريقية وتحديداً دول حوض النبيل، انطلاقاً من سياسة داخلية وخارجية تعتمد تبريد الملفات الساخنة، حتى وإن لم يتم التوصل إلى حلول لها، وبالفعل استطاعت الإدارة المصرية وصل بعض الشرايين المقطوعة مع أفريقيا ودول الحوض لكنها لم تستطع بناء استراتيجية واضحة تقوم على تعظيم المصالح المصرية المبنية على ضمان استمرار تدفق مياه النيل وبمعدل متزايد يتوافق مع الزيادة السكانية وعمليات التنمية.
تعاملت الإدارة المصرية دول حوض النيل خلال "مرحلة التبريد" التى مازالت مستمرة إلى الآن، بمنطق رد الفعل واحتواء الأزمات بالمفاوضات، رغم وجود العديد من المستجدات على مستوى دول الحوض نفسها مثل تغير الحكومات وتزايد معدلات التحديث والتنمية وحلول الوجود الأمريكى ـ الإسرائيلى من ناحية والوجود الصينى من ناحية أخرى محل الوجود الأوروبى التقليدى فى دول منابع النيل والزيادة السكانية الكبيرة، مع ثبات الحصة المصرية من المياه مما أدى إلى دخولنا حيز الفقر المائى، فضلاً عن الضغوط الموجهة من دول المنابع لتقليص هذه الحصة والقفز على الحقوق التاريخية المكتسبة لمصر.
صحيح أن مصر انضمت لتجمع السوق المشتركة لجنوب وشرق أفريقيا" الكوميسا" عام 1998، وانضمت عام 2001 إلى تجمع الساحل والصحراء، والتجمعان يسعيان إلى التكامل الاقتصادى بين الدول الأفريقية، كما شاركت فى تأسيس مبادرة التنمية الأفريقية فى مجال الزراعة " النيباد"، إلا أن الدور المصرى لم يكن المحرك الأساسى فى هذه التجمعات، كما لم تكن هذه التجمعات نفسها فاعلة لتعظيم التعاون والشراكة بين مصر وأفريقيا.
وصحيح أن الإدارة المصرية كثفت خلال السنوات الأخيرة من مشاريع التعاون الفنى فى مجالات الرى والمشروعات المائية مع دول حوض النيل إلا أنها جاءت بمنطق رد الفعل لاحتواء ضغوط دول الحوض الراغبة فى التنصل من الاتفاقات الموقعة والضامنة للحقوق المصرية التاريخية المكتسبة فى مياه النيل ، وفى أفضل الأحوال لن تؤدى جهود التعاون هذه إلا لتثبيت الأوضاع وفق سياسة التبريد التى تميز المرحلة ، بينما نحتاج إلى خطة مستقبلية للتعامل مع دول الحوض وفق المتغيرات التى طرأت عليها ووفق المتغيرات المصرية التى دخلت فى مجال الفقر المائى.
نحتاج إلى أفق جديد من العلاقات يقوم فيه القطاع الخاص بدور جديد فى الدول الأفريقية وتحديدا فى دول حوض النيل، استرشادا بالتجربة الصينية الراهنة، أو بالتجربة المصرية خلال الخمسينيات والستينيات ، بحيث يكمل هذا الدور ويعظم من التوجه الرسمى المعنى بنقل الخبرات المصرية فى مجالات المشروعات المائية لدول الحوض.
حصة مصر من مياه النيل
حصة مصر فى مياه النيل - 2
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة