يتحدث المفكر الكبير الدكتور جلال أمين فى سيرته "رحيق العمر"، عن أن مصر عاشت ثلاث سنوات مدهشة فى تاريخها من عام 1955 حتى عام 1958، ويدلل على ذلك بأمثلة متنوعة منها ما هو شخصى، ومنها ما هو عام، ومن الأمثلة التى تجمع بين العام والخاص، حصوله على بعثة للسفر الى لندن لدراسة الدكتوراه فى العلم الذى يحبه وهو علم الاقتصاد، ويقول إنه حصل على البعثة دون أى جهد للحصول عليها عدا التقدم بأوراقه الى إدارة البعثات، ويقول إن العدل فى توزيع البعثات فى تلك الفترة كان ظاهرة مدهشة، ويظن جلال أن هذا العدل لم يكن موجودا قبل هذه الفترة أو بعدها.
ويقول مفكرنا الكبير إن البعثة التى تمر اختياره فيها كانت هى الأكبر فى تاريخ مصر، فيما يتعلق بالبعثات العلمية إلى الخارج حيث أرسلت قيادة الثورة بعثات الى دول الشرق والغرب، فأرسلت بعض البعثات فى الاقتصاد الى امريكا وانجلترا وفرنسا، وبعضها الى موسكو وألمانيا الشرقية.
ويستعرض جلال أمين فى سرد جميل نوعيات زملائه المصريين الذين سافروا الى الدراسة، مشيرا الى أنه لا يظن أن جامعة لندن التى كانوا يدرسون فيها، استقبلت فى أى وقت من الأوقات هذا العدد الكبير من المبعوثين المصريين.
يتحدث عن زير النساء الذى لم يكد يضع حقائبه فى حجرته حتى ذهب الى أقرب مرقص للتعرف على فتاة إنجليزية أو أوربية، ويتحدث عن عضو سابق بجماعة الاخوان المسلمين، لازال على تدينه وإصراره على تطبيق الشريعة الإسلامية، وأتى إلى لندن بزوجته وأطفاله مصرا على أن تحديد النسل يعوق تقدم مصر، إذ أن الذى يمكن يلتزم به هم أفضل شرائح المصريين تعليما وذكاء، والمفروض أن يتكاثر هؤلاء لكى يرفعوا من مستوى الأمة.
وكان هناك الشاب العاقل الرزين الذى يعامل الجميع بأدب فائق، ويهوى استخدام العبارات الانجليزية البالغة التهذيب، وبلكنة انجليزية واضحة، ويتصرف كما لوكان هو والد أوعم كل من فى البعثة على الرغم من أنه فى مثل سن زملائه، وكان هناك الشاب الطويل الوسيم والظريف أيضا، وكانت مشكلته أنه تزوج قبل أن يسافر الى لندن من زميلته الجميلة والتى كانت تغار عليه بشدة من نساء لندن، فاهتدت الى حل غريب وهو، إقناعه بأنه لاحاجة إلى الذهاب إلى الجامعة إلا مرة كل شهر، فكل شئ فى الكتب، وكل الكتب متاحة للاستعارة، فلماذا لا يذهب مرة الى كل شهر لاستعارة ما يحتاجه من كتب ويصور مايريده من مقالات، ويعود لقراءتها فى البيت إلى جوارها، حيث يجلس على راحته ويشرب الشاى أو القهوة كلما أراد، ويأكل مما تطبخه له من ألذ الطعام المصرى بدلا من هذا الأكل الانجليزى الذى لاطعم له.
هذه النوعيات من البشر الذين سافروا فى أكبر بعثة تعليمية أرسلتها مصر الى الخارج هم الذين عادوا بعد سنوات، والمفروض أنهم سيكونوا من الذين سيشكلون وعى المجتمع، فهم أساتذة جامعة، وكانوا فى زمن يعد يعطى قيمة عظيمة لأستاذ الجامعة، وبالرغم من أن الدكتور جلال لم يتتبع فى كتابه مصير هؤلاء، خاصة وأنه جاء بملامح اجتماعية لشخصياتهم، إلا أنه يتحدث عن قصة واحد ممن كانوا فى البعثة رغم ضآلته العلمية والأخلاقية إلا أنه صبح شيئا هاما . ونلتقى بقصة هذا الأستاذ غدا .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة