يروى المفكر الدكتور جلال أمين فى كتابه: "رحيق العمر" قصة مبعوث مصرى ذهب فى نفس البعثة التى سافر فيها الدكتور جلال إلى لندن(1957) للحصول على درجة الدكتوراه، يقول جلال إن قصة هذا المبعوث تستحق أن تروى لأنها تبين مدى الحمق الذى بلغه نظامنا التعليمى والسياسى.
سافر جلال إلى لندن للدراسة وعمره 23 عاما، وكان هذا الشخص الذى لايذكره جلال بالاسم عمره 27 عاما، ويصفه جلال بأنه عندما قابله أول مرة وجده طويلا لايخلو من وسامة، وشديد العناية بهندامه وعلى الأخص بشعره الذى لايكف عن مسحه بيده برفق، مرة من اليمين ومرة من اليسار، وكان ذكاؤه محدودا سواء فيما يتعلق بالدراسات الأكاديمية، أو بفهم الناس أو بتقدير فن من الفنون، وهو ليس خفيف الظل، ولاطريف الحديث، ولا راويا جيدا لنكتة أوقصة حدثت له، بطئ، كسول، متردد، يكذب للتخلص من أى موقف قد يجلب له المتاعب.
يندهش جلال من كيف لهذا الشخص أن يتخرج من كلية الحقوق بتفوق قبل تخرج جلال بسنة، وجاء تفوقه لأنه فضل تأجيل دخول الامتحانات النهائية بحجة المرض، حتى تتاح له سنتان كاملتان للدراسة، ولما ذهب إلى لندن للدراسة سرعان ما اكتشف الإنجليز عجزه التام وكسله المطلق فتوالى أستاذ بعد الآخر عن الاستمرار فى الإشراف عليه، ومرت سنوات طويلة تخرج فيها من تخرج وحصل على الدكتوراه الذين التحقوا بالدراسة بعده، وكل هذا يحدث دون أى تغيير يبدو عليه لا فى الشكل أوالمضمون.
بضيف جلال أن هذا الشخص لم يكن مضى على مجيئه الى لندن سنة حتى قرر العودة إلى مصر للزواج من قريبة له والمجئ بها إلى لندن، وكان هذا مصدر لدهشة زملائه الموجودين معه فى لندن، والسبب أنهم يعرفون نمط حياته فى لندن، إذ كان يسهر كل ليلة فى بار مجاور لمنزله، ويتعرف الى فتاة أوربية بعد أخرى، ويقول جلال أنه بعد أقل من أسبوع من عودته الى لندن ومعه زوجته، عاد الى نفس نظامه القديم، فكان يتركها فى الصباح ليذهب الى الكلية وفى المساء للذهاب الى البار، وعادت إلى مصر لوضع مولودها، ولم تعد ثانية إلى لندن، ولما عاد إلى مصر بعد سنوات طويلة، وكانت ابنته أصبحت فى العاشرة طلق زوجته بعد سنة أو سنتين من هذه العودة .
يقول جلال إنه بعد أن يئس أساتذة كلية لاقتصاد فى لندن من حصول هذا الرجل على درجة الدكتوراه، ذهب إلى كلية مغمورة فى مدينة إنجليزية وسجل نفسه طالبا للدكتوراة واختار لنفسه موضوعا حول نقطة صغيرة فى تاريخ مصر الاقتصادى الحديث، يعرف عنها المصريون كل ما يستحق أن يعرف، ولكن يجهلها الأستاذ الإنجليزى الذى قبل الإشراف عليها، وبعد أن كتب الرسالة اختار الأستاذ المشرف عليه مدرسا أيرلنديا صغير السن فى جامعة لندن لامتحانه، وكان هذا المدرس طيب القلب، وأجاز لصاحبنا الرسالة وحصل بمقتضاها على درجة الدكتوراة.
وفيما بعد روى هذا المدرس لجلال أمين سبب إجازته لصاحبه للرسالة، بأنه وجده قد مضى عليه عدد كاف من السنين فى إنجلترا، وآن له أن يعود إلى مصر، وإنه قال لنفسه إن الرجل لن يضر أحد فى انجلترا بحصوله على الدكتوراه.
ماذا حدث لهذا الرجل بعد أن عاد الى مصر؟
يقول جلال أمين إنه عمل مدرسا فى الجامعة وظل يترقى حتى صار أستاذا، ثم ذهب إلى العمل فى مؤسسة كبيرة فى إحدى الدول الإفريقية فى منصب كبير تملك الحكومة حق الترشيح له، ثم ذهب إلى السعودية للتدريس فيها، وعاد إلى مصر ليواصل التدريس، حتى زار رئيس الجمهورية الكلية التى يعمل فيها للقاء أساتذتها، وبعد انتهاء اللقاء سار مع العميد خارجا من القاعة، وإذا بالرئيس يهمس فى أذن العميد بكلام عن هذه الشخصية قائلا : لديكم أستاذ فى الكلية اسمه على ما أذكر (_) أتتنى شكوى مرة من أحد أقاربى إذ يقول إنه فى المحاضرات يفعل كذا وفى الامتحانات، فما الحكاية ولماذا لا تضعون حدا لهذا الأمر؟.
رد العميد على الرئيس يطمأنه، وأنه على علم بكل هذا، وانه اتخذ كافة الإجراءات حتى لا يتكرر ما يفعله هذا الأستاذ فى المستقبل، والمدهش أنه بعد نحو شهرين أو ثلاثة تم تعيين هذا الأستاذ فى منصب رفيع للغاية، لا يمكن كما يقول جلال أن يتم إلا بعد أخذ راى بعض المسؤلين فى رئاسة الجمهورية.
فمن يا ترى هذا الرجل الذى لا يفصح جلال باسمه فى الكتاب، وأصبح فى منصب رفيع للغاية يصدر منه كل يوم قرارات تحكم مصر، بالرغم من الشكاوى ضده التى وصلت إلى رئيس الجمهورية؟.