جاء عبد الناصر إلى حيث قمة الحكم فى مصر، وجاءت معه فكرة البطل المطلق، تطورت الفكرة مع جمال عبد الناصر كثيرا نتيجة للظروف السياسية التى عاشها البلد فى ذلك الوقت، وطبيعة شخصية عبدالناصر نفسها الذى طغت كاريزمته على كل شىء، ومع الرئيس السادات تطورت الفكرة .. فكرة البطل المطلق والأوحد أكثر وأكثر حتى جاء الرئيس محمد حسنى مبارك ليجعل منها قاعدة لعصره غير قابلة للتحريف أو التعديل.
فى عصر عبد الناصر ومن بعده السادت كانت ثمة أشياء أخرى يمكن لها أن تشارك الرئيس نفس الصورة، ربما كانت أحلاما قومية مثل عروبة ناصر أو أكتوبر السادات، أو نماذج إنسانية قوية مثل أم كلثوم وعبد الحليم وتوفيق الحكيم وباقى قائمة القامات الطويلة التى لم يحظ عصر الرئيس مبارك بالكثير منها، بشكل جعل الفرصة متاحة ومفتوحة أمام الرئيس- أى رئيس- ليتصدر المشهد منفردا، ربما لم تكن تلك رغبة الرئيس مبارك فى بدايات حكمه، وربما الظروف النفسية للشعب ساهمت بشكل أكبر من الرئيس نفسه فى ترسيخ تلك الفكرة اعتمادا على تاريخ مصرى طويل اعتاد تقديس الحاكم وتنصيبه إلهاً فى بعض الأحيان، ربما كل ذلك وغيره ولكن من المؤكد أن طول فترة بقاء الرئيس مبارك هى السبب الرئيسى فى الترسيخ لفكرة الرجل الأوحد.. أو البطل المطلق التى بدأها الزعيم جمال عبد الناصر.
الكلام هنا عن كون الرئيس مبارك هو الرجل الأوحد فى الدولة الذى يأمر فيتم التنفيذ ويتدخل فتظهر الحلول، ويملك كل الشفرات السرية لخزائن وأسرار الدولة، وبيده خيوط اللعبة كلها، يأتى بوزراء ويرفض استقالات بعضهم ويجبر آخرين على الاستقالة ويفاجئ أغلبهم بقررات فى صميم تخصصهم تصعقهم مثلما تصعق رجل الشارع العادى، ولا تعلو فوق كلمته أى كلمة، ولا يتخطى قراره قرار، ولا يخلو من صوره ميدان عام أو حتى فرعى، ولا توجد سبورة فى فصل أو مكتب فى مصلحة لا تظله صورة من صوره الشابة.. هذا الكلام السابق سيبدو كلاما معادا ومكررا لو كان عن الرئيس مبارك شخصيا أو عن أى رئيس فى أى دولة من دول العالم الثالث.
أما الكلام الغريب فيكمن فى تلك النغمة التى أصبحت سائدة الآن، والتى تهدى للرئيس كل شىء وتنسب له أى شىء، فإذا كان السادة المسئولون يدورون فى فلك الرئيس ولا يتحركون إلا طبقا لخططه ولا يجتهدون سوى لتنفيذ برنامجه الانتخابى، ولا يتحدثون عن إنجاز إلا بعد أن ينسبوا فضل حدوثه للرئيس، فإن أهل الشارع فى مصر لا يختلفون كثيرا عن مسئوليهم، فكل الأشياء الجيدة التى تحدث فى البلد يتم لفها وتغليفها وإهداؤها للرئيس مبارك بعد أن يتم نسب فضل حدوثها إلى تعليماته، يحدث ذلك فى الرياضة والاقتصاد والثقافة والسياسة وفى الليل والنهار وفى جميع شهور السنة..
كل مصرى صاحب إنجاز تقابله كاميرا تلفزيون أو عدسة صحفية لتسأله عن إنجازه، يبدأ حديثه بإهداء الإنجاز إلى السيد رئيس الجمهورية ومن بعده الشعب المصرى، لدرجة أن بعض القيادات المسيحية قالوا إن التجلى المتكرر للسيدة العذراء هو دلالة على حبها لمصر ودعمها للمسيرة التى يقودها الرئيس مبارك.
صحيح أن كثيرا من هذه الإهداءات تدخل تحت بند النفاق والموالسة، ولكن الظاهرة أصبحت ملفتة للنظر، فلا يمكن لأحد أن يتحمل ظهور الكابتن حسن شحاتة المدير الفنى للمنتخب المصرى عقب كل فوز للمنتخب المصرى سواء كان وديا أو فى بطولة رسمية ليهدى الفوز للرئيس مبارك، قبل حتى أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم أو يشكر لاعبيه على الجهد المبذول..
وبعيدا عن الرياضة فى مجالات أخرى كان طبيعيا أن تشاهد بعينيك صحف الحكومة وهى تهدى للرئيس مبارك فوز الدكتور محمد البرادعى ومن قبله الدكتور أحمد زويل بجائزة نوبل على اعتبار أنه راعى العلم والعلماء، وأيضا حصول بطرس غالى على منصب دولى تحول إلى إهداء للسيد الرئيس، أما الوزراء والمسئولون فقد اعتادوا على إهداء كل كوبرى جديد أو طريق حديث أو مستشفى جديدة للسيد الرئيس، حتى أن بعض رجال المعارضة اعتادوا فى الفترة الأخيرة على تصدير عدد من مقالاتهم بعبارة غريبة جدا تقول : "هذا المقال إهداء للسيد الرئيس من أجل الكشف عن حقائق كذا أو كذا".
كل هذا الكم من الإهداءات يأتى أغلبه من مبادرات فردية على ألسنة أشخاص مؤمنين بأن الموالسة أقرب طريق للوصول إلى قلب الحاكم، وقد طور بعض الأشخاص طبيعة هذه الإهداءات فظهرت على هيئة لافتات تساند الرئيس وقت الشدة، وصور بعلو عمارات تزين الشوارع، وإعادة تعمير ميادين رئيسية تتصدرها صورة الرئيس وأسفلها جملة تقول:" إهداء من المعلم أو الحاج فلان الفلانى" الذى يكون إما عضوا فى الحزب الوطنى أو نائبا فى البرلمان أو طامعا فى الاثنين، بخلاف كل ذلك لم يتوقف الأمر عند حد الإهداء فكلمات الشكر الموجهة للرئيس سواء من مواطن عادى أو من مسئول حالى أو سابق لا تخلو منها صحيفة يومية أو برنامج تلفزيونى، فالكل يشكر الرئيس على كل شىء وأى شىء.
وبعيدا عن التفسيرات السياسية والاجتماعية لفكرة الرئيس الذى نهدى له كل شىء، وبدون بحث عن إجابة لسؤالين يقولان: لماذا نهدى للرئيس كل شىء وأى شىء؟ وهل فعلا يستمتع الرئيس – أى رئيس- بكل هذا الامتنان الشعبى الذى يدفع الناس لشكره وإهداء تعبهم له على طول الخط؟ تبقى فكرة الهدية نفسها فكرة لطيفة إذا اعتبرنا أنها تطبيقا للمبدأ النبوى "تهادوا تحابوا"، ولكن هل يمكن أن يحدث هذا الحب إذا كانت كل الهدايا تسير فى طريق واحد؟ هل يمكن أن يحدث الحب دون تبادل العطاء؟
أعتقد أن الفقراء ومرضى السرطان والفشل الكلوى والكبد وموتى الجوع، والممتلئة بطونهم بماء المجارى وخضروات الصرف الصحى، يمكنهم أن يصبحوا مقدمات للإجابة على الأسئلة السابقة، ويمكنهم أن يخبروك أيضا أن مسألة الإهداءات هذه ماهى إلى طوبة فى بناء كامل اسمه الرجل الأوحد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة