يشجينى صوت أم كلثوم أكثر ما يشجينى فى ليالى الغربة، وليل الغربة فى قبرص طويل لا ينتهى إلا مع شقشقة الفجر الأولى، حيث يغلبنى سلطان النوم، ويهزمنى تحالف النعاس والإرهاق، فى الربع الثالث من الليل يأتينى صوتها مليئا بلوعة الحب والصبابة، مسكونا بالهجران، فيركبنى الشوق، ويتلبسنى الحنين، ويكاد يقتلنى التوق إلى الضفة الأخرى من البحر.
وأهل قبرص كأهل الجزر، منغلقون على أنفسهم، هيَّابون للذى يأتى من عتمة الماء، وبعد الثامنة مساء كنت تمشى فى شوارع نيقوسيا فلا تجد صريخ ابن يومين، سيارات بكل الطرز وبكل الألوان تمر بجانبك كالبرق، وكنت أتلذذ بالمشى وحدى تحت وابل من المطر، ووسط أجواء من الصقيع، أتسكع أمام واجهات المحلات، أو أقف مشدوداً إلى طراز معمارى، أجرى هائماً على وجهى يدفعنى شعور الوحدة باتجاه البحث عن ونيس لا أجده، ومن جديد تحط رحالى فى بيتى منهوك القوى وحيدا مع صوت أم كلثوم:
(سهران لوحدى أناجى طيفك السارى سابح بوجدى ودمعى ع الخدود جارى)
فى تلك الساعة من ساعات الليل كان صوت أم كلثوم يمنحنى العافية ويذكرنى بالشطوط التى هربت من تحت أقدامى، وبالبحار التى من خلفى، وبأعداء من أمامى يترصدون خطوى وبأنه لا منجى ولا ملجأ لى من الغربة إلا بالعودة، فيحملنى صوتها الشجى إلى ملاعب الصبا، ويدخلنى إلى حوارى بولاق الدكرور، يطوف بى فى شوارع المهندسين، ويهيج فى كل الشوق إلى كل الناس، إلى الأصدقاء الذين غابت صورتهم أو غامت وإلى الأصدقاء الذين لا تزال صورهم محفورة فى القلب، إلى الحبيب الذى غدر وهجر، إلى المحبوب الذى مازال يملأ فضاء القلب والخيال، كان صوت أم كلثوم يبعث كل هؤلاء أمامى بشراً من لحم ودم، يبث فيهم الحياة وينعش الذاكرة بكل التفاصيل وبشتى الصور بإيماءة سلبت لبى، وبابتسامة ردت إلى قلبى، بدعوات أمى وهى عارية الرأس: (إلهى يحبب فيك خلقه، حتى الحصى فى أرضه)، بتنورة أول حب برىء ترفعها ريح عابثة ولا تزال تسكن ذاكرتى لا تبرحها، بساعة الصبحية ونحن فى الطريق إلى المدرسة، بطبق الفول على عربة بشارع جانبى، بعم (جودة) فراش المدرسة، بى وأنا أمسك المذياع لكى ألقى على الطابور حكمة الصباح: ( من جد وجد ومن زرع حصد)، بأيام الشقاوة وبليالى الشقاء، بعبث الصغار وتعب الكبار، بأعواد القصب فى ليالى الشتاء حول المدفأة، بيدٍ حانية توقظنى فى جوف الليل: (قوم اتسحر)، بنشيد: الله أكبر، بأصواتنا تعلو إلى عنان السماء تهتف: (سيد مرعى يا سيد بيه، كيلو اللحمة بقى بجنيه)، بشارع الجامعة، بالشوارع الخلفية أمسك يد صغيرتى وينبض داخلى الحب الأول، واللمسة الأولى، بأول مرة قلت فيها: أحبك، بالتسكع على الكورنيش بالإسكندرية، بساندويتش فول بالزيت الحار.
كانت الصور بكل ظلالها وإضاءاتها تجىء مع صوتها بالليل، وكانت التفاصيل بكل ملامحها، بكل رتوشها، حلوها ومرها، كان كل ذلك وأكثر منه يجىء مع صوت أم كلثوم فى ليالى الغربة، ولا أذكر أننى عمدت إلى سماع صوت أم كلثوم فى أيام وليالى القاهرة، دائما يجيئنى صوتها فى أى وقت عبر مذياع الجيران أو ساعة العصارى عبر المحطة الإذاعية المسماة باسمها، ولكنى أبدا ما وضعت المسجل أمامى وأصغيت إلى صوتها منه إلا فى ليالى الغربة.
فى مصر كان صوت فيروز يتبعنى كظلى، أسمعه وأنا أكتب شعرا أو نثرا ، وأسمعه وأنا فى الحمام، وأنا فى حجرة النوم، فى السيارة، أو فى العمل، فى كل مكان وزمان القاهرة يعيش معى صوت فيروز إلا فى الغربة يستحوذ على صوت أم كلثوم ولا يفسح لغيره مجالا إلا فى أضيق الحدود.
صوتها وحده الذى يخمد نار الحنين عندى، ويوقدها، صوتها وحده هو الذى يطفئ لوعة الشوق لدى... ويشعلها، صوتها وحده الذى يجعل دمعى يتساقط، ويجففه، صوتها وحده الذى يقدم ملخصاً وافياً وعبقرياً لمصر فى الغربة:
شمس الأصيل ذهبت خوص النخيل يا نيل تحفة ومصورة من صفحتك يا جميل.
وفى القاهرة، وبعد العودة، تعود أشرطة الكاسيت إلى مخبئها، ويلعلع صوت عبد الحليم ليملأ ساحة القلب: يا ما لفيت سواح متغرب ، وأنا دمى بحبك متشرب، ابعد عنك قلبى يقرب، ويرفرف ع النيل عطشان، بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة