هذه المرة - ربما بسبب الانتخابات البرلمانية المقبلة - لم يطالب نواب المحظورة بمصادرة ألف ليلة وليلة فى طبعتها الجديدة «المدعومة»، التى أصدرتها مشكورة هيئة قصور الثقافة فى سلسلة الذخائر الراقية التى أسسها جمال الغيطانى وعاد إليها مؤخراً بعد أن تصالح مع الوزير الفنان، هذه المرة تقدم «محامون بلا قيود» إلى النائب العام ببلاغ يطالبون فيه بحبس وتغريم القائمين على النشر، لأن العمل يحتوى «على كم هائل من العبارات الجنسية الصريحة والمتدنية والقميئة الداعية للفجور والفسق وإشاعة الفاحشة وازدراء الأديان»، ولأن المادة 178 من قانون العقوبات تعاقب من ينشر مواد تحرض على الفحش، باعتبارهم يحملون توكيلاً رسميا من المجتمع الذى لا يعرف عنهم شيئاً.
على صعيد آخر تمت إحالة يوسف زيدان إلى نيابة أمن الدولة العليا بتهمة ازدراء المسيحية، بناء على البلاغ الذى تقدم به نجيب جبرائيل، رئيس منظمة الاتحاد المصرى لحقوق الإنسان، لأنه قال فى ندوة «اليوم السابع»: «إن العصور التى سبقت مجىء عمرو بن العاص كانت أكثر ظلاما وقسوة على المسيحيين، وأن ما يلقنونه للأطفال فى مدارس الأحد ويحشون أدمغة القاصرين ما هو إلا أوهام وضلالات تجعلهم فى عزلة عن المجتمع، لذا يسهل على الكنيسة استخدامهم سياسياً»، محامون بلا قيود وجبرائيل المصرى لحقوق الإنسان جاءا فى الوقت المناسب، لترسيم الحدود والدفاع عن حقوق الإنسان، ألف ليلة وليلة ليست فى حاجة إلى دفاع، لأنها غابة فطرية تطل البشرية عليها وهى تبحث عن العفوية والسحر والخيال الذى لا يشرف عليه أولو الأمر، ومحاكمتها يعنى مصادرة الخيال الذى جعل بروست يبدع البحث عن الزمن المفقود، وأخذت جوته من قلبه إلى الشرق، ومكنت بورخيس من تأمل المصائر، وعلمت ماركيز الإيقاع واكتشاف الحيل المركونة فى الكتاب، وألهمت توفيق الحكيم شهرزاد وشمس النهار، وتركت ألفريد فرج يستلهم حلاق بغداد وعلى جناح التبريزى، وألهمت نجيب محفوظ ليالى ألف ليلة، ودفعت طه حسين لاستكمال أحلام شهرزاد، وألهمت جمال بن شيخ ومحسن مهدى وسهير القلماوى وعبدالفتاح كاليطو وغيرهم من الذين وقعوا فى غرام النص الفريد، الملهم، العابر للحدود والثقافات، لأنه نص تخلص من لغة الأدب الرسمى، ليكون ملكا للناس، هو نص ضد الاستبداد، تقاوم به شهرزاد الموت بالحكايات، (المرأة التى قبض عليها فى قضية آداب مؤخراً كما كتب محمد الرفاعى فى صوت الأمة)، والمطالبة بمصادرته تعنى طمس الآثار الثقافية العربية الكبرى لكى يزدهر الفكر السلفى برماله ونفطه، ولن ننسى حيثيات حكم القاضى سيد محمود يوسف فى حكمه التاريخى سنة 86 الذى انتصر فيه للحرية وللكتاب: «مؤلف ألف ليلة وليلة كان مصدراً للعديد من الأعمال الفنية الرائعة ومنه استقى كبار الأدباء فى العالم عامة والعربى منهم خاصة روائعهم الأدبية، الأمر الذى ينفى عنه مظنة إهاجة تطلع ممقوت أو الإثارة الشهوانية لدى قرائه إلا من كان منهم مريضا تافها، وهو ما لا يحسب له حساب عند تقييم قيمة المطبوعات الأدبية الطيبة»، معظم ردود الفعل التى وقفت ضد المصادرة جاءت لأن الوزير مستاء، اتحاد الكتاب وقف مع الحرية والتعددية، تحدث جابر عصفور بعد جائزة القذافى عن التيار النقلى الموالى للسلطة، وعن التيار العقلانى المنفتح على الآخر، الاتحاد طالب بتدريس الليالى فى المدارس، وهى جرأة لا شك، ولكن هذا لن يحدث ولا يجوز، لأن ألف ليلة من مزاياها أن يذهب الناس إليها، ولا يتم تلقينها لهم، معظم الذين يدافعون عن العمل العظيم هذه المرة هم الذين كانوا مع مصادرة الروايات الثلاث قبل سنوات، وعندما يقول فاروق حسنى لمشيرة موسى فى الأهرام إن ما يثار حول ألف ليلة وليلة دليل على الجمود الفكرى وإن الإبداع فى مصر يتراجع، فهذا يعنى أنه لا يقوم بواجبه كما ينبغى، أما ما يتعرض له يوسف زيدان من قبل جبرائيل المصرى لحقوق الإنسان، فهذا يعنى أن مراكز قوى تتشكل، ويخضع النظام لابتزازها، لأن الحرية الحقيقية.. ليست فى صالحه.