خالد صلاح

جريمة على أرض مصر من ارتفاع 32 ألف قدم

الجمعة، 14 مايو 2010 01:05 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الحكومة تعلم أنها شريكة فى هذه الجريمة حين تسمح لبعض النواب المؤيدين لها بالتحايل على القانون


أقسم لك أن السبب الوحيد الذى قد يدفعنى إلى المشاركة فى مظاهرة أمام مجلس الشعب، أو إلى مسيرة من عمر مكرم إلى مبنى مجلس الوزراء، أو إلى اعتصام مفتوح على سلم نقابة الصحفيين، أو إلى الإضراب عن الطعام على رصيف الحكومة، هو هذا المشهد الصادم الغاشم الآثم للمبانى الأسمنتية الزاحفة على الأراضى الزراعية فى قلب قرى الدلتا فى مصر، هذا المشهد يقطع الطريق على كل أمل لك ولى فى المستقبل، يضرب بقوة كل أحلامك التى شكلتها بيديك عن قوة هذا البلد، وثروة هذا البلد الآن أو غدا أو فى أى وقت.

لا يمكنك أن تدرك حجم ما ينتظرنا من كارثة، إلا حين تنظر إلى المساحة الخضراء لأرض الدلتا من نافذة طائرة على ارتفاع 32 ألف قدم، لتشاهد هذه المذبحة الأسمنتية للأراضى الزراعية، وهذا الانقراض المتواصل لكل ما هو أخضر فى الدلتا، وكان قدرى الأسبوع الماضى أن أحلق على هذا الارتفاع عائدا من الدنمارك بعد ثلاثة أيام عمل فى كوبنهاجن، وما إن عبرنا البحر المتوسط نحو القاهرة، حتى أدركت أن الأبنية الأسمنتية هى الملمح الوحيد الذى تلاحظه على الأرض، وأن القرى التى كنت تراها من قبل صغيرة ووادعة، صارت مدنا متوحشة تمتد طولا وعرضا وسط الأراضى الزراعية، وتلتهم كل ما أتيح لها من المساحات الخضراء فى كل اتجاه، المشهد يزداد غلوا وتطرفا إلى حد مخيف، فما من رحلة قطعتها على هذا المسار بين القاهرة وأوروبا، إلا وتزداد فى داخلى أجراس الخطر، الأفق الممتد من المساحات الخضراء ينحسر فى كل مرة ليتلون بالطوب الأحمر والأسمنت، طعامنا نستبدله بالرمل والحجارة، ومستقبلنا ندفنه بالحديد والخرسانة.

المخيف أكثر أن معدلات هذا التآكل للأراضى الزراعية لا يخفى على ملاحظة عابرة بالعين المجردة من نافذة الطائرة، والمخيف أكثر أن حجم الامتداد السرطانى للأبنية الأسمنتية وسط الزراعات، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن النسبة الأعظم من هذا التوسع تقع خارج الأحوزة العمرانية المقررة قانونا، القرى تكاد تصبح سلسلة متصلة من الأسمنت بلا انقطاع، والخضرة التى كانت عنوان الدلتا، تتقلص إلى الحد الذى قد تصبح فيه أرضنا الزراعية مجرد شقوق صغيرة خضراء وسط غابات شاسعة من الأسمنت، الدلتا بكاملها قد تصبح مجرد ذكرى لأرض خصبة كنا نعيش على ناتجها الزراعى فى الماضى، الآن نحن نقدم هذه الثروة قربانا للتوسع العمرانى الأحمق، بلا معايير وبلا قوانين وبلا ضوابط.

القضية هنا تتجاوز هذا المشهد المظلم من نافذة الطائرة، إذا قرأنا جيدا الإحصائيات المتعلقة بخسائرنا المتلاحقة فى ملف الأراضى الزراعية، أو المياه، أو معدلات استيراد الغذاء فى مصر، أنت تعلم أن مصر محاصرة فيما يتعلق بمياه النيل بتعقيدات هائلة مع دول الحوض، وهو الأمر الذى قد يعطل حتما مشروعنا للاستصلاح الزراعى فى الأراضى الصحراوية، وأنت تعلم أيضا من الناحية المعلوماتية أن 98% من سكان هذا البلد يعيشون على 4% فقط من إجمالى المساحة الجغرافية، وتعلم كذلك أن تقديرات الخبراء فى مجال الأراضى، تشير إلى أن حجم الزيادة السكانية، وارتكاز هذه الزيادة فى مساحة محدودة، قد يقودنا إلى خسارة كل الأرض الزراعية المصرية خلال أقل من 60 عاما فقط، أى أن مواليد هذا العام سيأتى عليهم اليوم الذى لن يعرفوا فيه معنى الزراعة أو شكل القطن أو القصب أو الذرة أو حتى البرسيم.

الإحصاءات تؤكد ذلك، والعين المجردة التى تطل على أرض الدلتا من نافذة الطائرة، لا يخفى عليها أننا سائرون فى هذا الطريق المعتم لا محالة، أضف إلى هذا الواقع البائس أن العالم بأسره يواجه تغيرات مناخية عاصفة، أقل ما تهددنا به هنا هو اختفاء 30% من مساحة الدلتا فى حال واصلت الكتلة الجليدية ذوبانها، واستمر سطح البحر فى الارتفاع والزحف، منافسا سرطان الأسمنت والطوب الأحمر فى القضاء على ما تبقى لنا من طعام وشراب فى الأرض الزراعية.

لا يجوز هنا لحكومة الدكتور نظيف أن تغمض عينيها عن هذه المشكلة تحت زعم أن الجريمة بدأت فى عصور أخرى، أو أملا فى أن عواقب ما يجرى ستتحمله حكومات لاحقة قد تواجهها كارثة حقيقية، وأن هذه الكارثة ليست من الأولويات اليوم، يخطئ نظيف وتخطئ الحكومة إن تصورت أن واجبها الوطنى هو إنجاز مهامها الإدارية اليومية دون النظر إلى ما قد تتحمله الأجيال المقبلة، وهذه الأجيال لن تكون بعيدة كما نتوهم نحن الآن، لكن الجيل الذى قد يدفع ثمن كل هذا ربما يكون أبناءنا الذين نقدمهم إلى حياة بلا مستقبل، وأرض قد لا تتحملهم ولا تتحمل طعامهم وشرابهم فيما بعد.

الحكومة تهمل هذه المشكلة وتضع رأسها فى الرمال عمدا، لأنها تعجز عن إيجاد حل حقيقى لما يتعلق بالأحوزة العمرانية، أو الزيادة السكانية، أو البناء خارج الأحوزة بالمخالفة للقانون، الحكومة عاجزة عن حماية الأرض الزراعية والسيطرة على هذه المذبحة المستمرة، والحكومة عاجزة أيضا عن بناء استراتيجية حقيقية تواجه بها أزمة استصلاح الأراضى الصحراوية، خاصة بعد الأزمة مع دول حوض النيل.

الدكتور نظيف يتحمل هذا الخطأ هو وحكومته، بنفس القدر الذى تتحمله كل الحكومات السابقة خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وللتاريخ فإن الدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق، أول من انتبه لهذا الخطر بإصداره قرارا من الحاكم العسكرى بتجريم البناء على الأراضى الزراعية، والدكتور نظيف لن يكون بريئا أمام الناس أو أمام التاريخ، إذا استمر الوضع على ما هو عليه دون حزم تشريعى ورقابى، يمنع المزيد من العدوان على الأراضى الزراعية، الحكومة تعلم أنها شريكة فى هذه الجريمة، حين تسمح لبعض النواب المؤيدين لها بالتحايل على القانون وانتزاع المزيد من الأراضى الزراعية لضمها إلى الأحوزة العمرانية خلال الانتخابات، والحكومة تعلم أنها تتواطأ مع هؤلاء المجرمين، حين تهبهم ثروات حراما من ضم أراضيهم الزراعية إلى دوائر المبانى قسرا وخارج القانون، وهنا يختلط العجز مع التواطؤ ليضاعف من قسوة المذبحة ويؤكد أنه لا أمل ولا مستقبل.

مؤسف أن تنظر من الطائرة لبلادك فلا تشعر بالأمن مع العودة إلى الوطن، لكنك تشعر بالخوف والفزع من أن تفقد هذا الوطن يوما بالغفلة والتواطؤ والصمت على الجريمة.














مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة