تأخرت هذه السطور كثيرا ولم يكن ذلك بسبب زحمة المرور أو حادثة الدائرى التى تعطلنى كل صباح عن الوصول للعمل أو بسبب المنبه الذى ماتت بطاريته ولم يضرب فى موعده..
تأخر هذه السطور لم يكن أيضا بسبب نسيان أو توهان بل كان تأخرا مع سبق الإصرار والترصد، تأخر يعكس رغبة هذه السطور فى ألا تأتى ضمن هوجة المجاملات أو التحيات التى انهالت على بلال فضل بعد إذاعة الحلقات الأولى من برنامجه عصير الكتب الذى يذاع كل أحد على قناة دريم.
تأخرت هذه السطور لأنها أرادت ألا تصطدم بنتيجة الظهور الأول لبلال فضل مذيعا والذى كان هو يتوقعها كارثة.
تأخرت هذه السطور لأنها أرادت أن تكون صادقة ولأننى أعلم جيدا قدرة بلال فضل على شم ريحة المجاملة والموالسة المتخفية بين الكلمات، وبخلاف كل هذا وذاك يبقى السبب الحقيقى للتأخير كامنا فى خوفى من الكتابة عن شخص يمثل لى أبا شرعيا للجميل من الألفاظ والرائع من الجمل والتراكيب وفى نفس الوقت مرشدى الذى طالما طلبت منه النصائح وكثيرا ما أرسلت له بعض مقالاتى وموضوعاتى لتصحيحها وإبداء رأيه فيها..
ماذا فعل بلال فضل فى عصير الكتب إذن؟ هل نجح؟ وهل قدم برنامجا جيدا يستحق المتابعة فى ظل تلك الزحمة الفضائية؟
بضمير مرتاح أستطيع أن أقول نعم .. ليس فقط لأن من يقدمه بلال فضل للناس فيه من الفوائد والمعرفة ما لا يجده المواطن الآن فى برامج هز الوسط وهز اللسان ومعارك صناعة الحلقات السخنة التى تأتى بمزيد من الإعلانات، ولكن لأن بلال نجح فى أن يقدم شكل جديد للمتعاملين مع الكاميرا.. مقدم برامج تلقائى يرتدى ما يحب وليس ما تفرضه عليه سطوة الشاشة، ويتكلم كما يريد ولا يصرخ ولا يستظرف كما يريد مشاهد هذه الأيام وفوق كل هذا وذاك يبقى نجاحه فى هذا التحدى الذى جعله يقبل أن يكون ظهوره الأول على الشاشة من خلال برنامج ينتمى لتلك الفئة التى يراهن أهل الإعلام على فشلها وملل الناس منها بعد أول حلقتين، فإذا ببلال فضل يصنع من الثقافة والكتب عصيرا يروى ظمأ الناس للمعرفة وفى نفس الوقت يصيبهم بسكتة الملل القلبية.
فى وقت الإعداد للبرنامج قال لى بلال فضل إن البرنامج مختلف، وهذه كلمة اعتدت سماعها من كل صديق مقبل على إصدار كتاب جديد أو برنامج جديد ولهذا السبب لم تعد تؤثر فى هذه الكلمة ولا تدفعنى لرفع سقف توقعاتى.. ولكن الآن وبعد مشاهدة كثير من حلقات عصير الكتب أدركت أن بلال كان واثقا مما سيفعله رغم كل أطنان القلق التى كان يوزعها على المقربين منه.. بلال يسير على أرصفة الشوارع ويختار منها تلك الكتب التى لا نعرف من أين جاءت ولا من يقرأها، ويقدم من الشارع تقارير يربطها ببراعة بما يعصره من كتب وهو أمر غير معتاد على البرامج الثقافية التى اعتدنا منها استضافة واحد من هؤلاء الذين يتحدثون بالألفاظ المكلكعة والمصطلحات القادمة من سحيق الزمن، ومن أجمل ما فعله بلال فى عصير الكتب هى تلك اللقطات التى يفاجئنا بها عن عالم الكتابة.. بمحذوفاته وأسراره وأهم الكتب التى قتلتها الرقابة بحذف صفحات أو سطور منها.
عصير بلال فضل يحتاج فقط إلى تنوع أكثر فى الضيوف، وإلى مزيد من تقارير الشارع وإلى مزيد من تلقائية بلال فضل الذى يستحق التحية ليست فقط على جودة العصير الذى يقدمه للناس، ولكن لأنه لم يستسهل مثلما فعل كثيرون ولم يستغل موهبته فى الاسترسال والسخرية من الواقع ليقدم نفسه بشكل صاخب ومثير على الشاشة، بل لجأ إلى الطريق الصعب.. حيث توجد الرفوف والمكتبات والكتب.. والقراءة التى مازال كثير من السائرين فى شوارع مصر يعتبرونها عدوا..
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة