د. بليغ حمدى

شهريار حينما سهر

الإثنين، 17 مايو 2010 07:21 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يعلم الملك شهريار أنه حينما استمع لحكايا وحكايات وروايات زوجته الجميلة شهرزاد أن هذه القصص ستكتب وستجر وراءها العديد من المشكلات والأزمات المتعلقة بالأخلاق والشرف والالتزام الثقافى تجاه القارئ ودعاوى الحسبة والتجريم الخلقى وغيرها من الألفاظ والكلمات التى تذكرنى بالمنشورات الشيوعية القديمة التى وجدوها منثورة فى الطرقات عقب انهيار الاتحاد السوفيتى.

والقضية باختصار أنه تم طبع ونشر وتوزيع نسخة جديدة من الكتاب الأكثر صيتاً وذيوعاً ألف ليلة وليلة لصاحبته الجميلة شهرزاد التى خلبت قلب وعقل وأذنى زوجها الملك شهريار. وبعد نزول جزأين من الكتاب والذى أصدرته الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلتها المعنونة بالذخائر قامت الدنيا ولم تقعد ، وهاج الهائجون على الكتاب ومن أصدره وأقاموا عدة دعاوى قضائية ودعاوى حسبة وشكاوى وندوات تحت بئر السلم بحجة أن الكتاب فى صورته العامة يشكل مفسدة ، وفى تفاصيله الدقيقة يعد خروجاً على العرف الاجتماعى والناموس الأخلاقى.

والمثير للدهشة أن مثل هذه التحذيرات والتنبيهات على خطورة الكتاب الذى يعتقد مؤيدوه أنه قد يعصف بالتطور الحضارى المصرى و يجعلنا نعانى من حالات الانحسار الحضارى ناسين أموراً أخرى كقانون الطوارئ والضرائب التى ستفرض لاحقاً إن شاء الله ، لم تصدر من علماء الدين ، أو من أحد أفراد المؤسسة الدينية الرسمية، بل من خلال بعض المحامين والنشطاء وممن ألزموا أنفسهم حماية المجتمع المصرى من الوقوع فى الرزيلة.

وربما لم تهتم المؤسسة الدينية بظاهرة الكتاب فى بداية الأمر لأنهم مشغولون بأمور أخرى لعل أهمها تطوير وتعديل ونسف مناهج التربية الدينية الإسلامية بالمدارس العجيبة والتجريبية والذكية والمتطورة والمتجددة وكل الأسماء التى ألصقت بمدارسنا ومع ذلك لم نسمع عن أحد خريجها يقدم لنا اختراعاً أو مؤلفاً أو مقطوعة موسيقية أو معرضاً فى الرسم .

وربما لأنهم مشغولون أيضاً بتطوير الخطاب الدينى الذى بات قنبلة موقوتة ومرتعاً لغير المتخصصين والمؤهلين لذلك ، أو لأن الموضوع برمته لا يستحق المناقشة والتعليق ومن ثم إصدار رأى يتعلق بالليالى الألف.

وكلما قرأت شيئاً عن مصادرة كتاب ألف ليلة وليلة ، أو خبراً بإحدى الصحف المحلية مجهولة الحسب والنسب أتعجب ثم أضحك ثم أسخر ثم أبتسم ثم أتساءل مجدداً : وهل نحن أمة قارئة؟ وإن كنا شعباً يحترف القراءة كألمانيا ويعمل ألف حساب لخطورة الكلمة المطبوعة ودورها فى إحياء العقل أو إخماده ، فلماذا إذن لم نقم احتفالاً بيوم الكتاب العالمى الذى واكب يوم الثالث والعشرين من شهر أبريل الماضى والذى احتفلت به الأمم المتحدة واليونسكو ودول الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وأسبانيا وإيطاليا و بلجيكا وكندا والهند وكولومبيا وبالقطع والتأكيد واليقين الكيان الصهيونى المسمى بدولة إسرائيل أما نحن فلا.

ولن أتحدى أولئك الذين راحوا لأروقة المحاكم من أجل رفع قضايا تفريق وحسبة بين القارئ المصرى وكتاب الليالى الألف أنهم يعلمون لماذا اختير يوم الثالث والعشرين من شهر أبريل من كل عام للاحتفال بيوم عالمى للكتاب ، ولهم ولغيرهم أذكرهم بأن هذا اليوم اختير تخليداً لذكرى شعراء وأدباء عظام ماتوا فى هذا اليوم وتركوا آثاراً أدبية وميراثاً ثقافياً ضخماً مثل الرائع وليام شكسبير ، وأنكا جارسيلاسكو ، وميجل دى تيرباتست ، ودى لافيا.

لكنهم رأوا أن كتاب ألف ليلة وليلة سيصيب المثقف المصرى والمواطن المهموم بالثقافة وبحضور المؤتمرات الثقافية والندوات وورش العمل والمنتديات التى تناقش قضايا الأدب والفكر بالبذاءة والانحطاط الأخلاقى والتدهور الخلقى ، ناسين أنهم يعيشون فى وطن يستيقظ كل صباح على تظاهرة من أجل اختفاء اسطوانات البوتاجاز التى هى فى الأصل غير مطابقة للمواصفات العالمية ، ويذهبون كل صباح لعملهم وسط مئات المفترشين أرضاً من المتظاهرين والمعتصمين تجاه قرارات الحكومة والتى يرونها ضد رغباتهم .

نسى هؤلاء كل هذا وراحوا يكملون مسلسلهم المكرور فى دغدغة مشاعرنا وأعصابنا بقصة ألف ليلة وليلة ، مرتكزين فى دعواهم على بعض الكلمات الواردة بالليالى الألف والتى نسمعها كل يوم بشكل مقصود وغير مقصود فى الشارع والعمل وأخيراً المدارس المصرية التى خرجت يوماً ما العالمى نجيب ومحفوظ والعبقرى جمال حمدان ، والدكتور أحمد زويل ، والمفكر مصطفى محمود وغيرهم كثير.

لم يفكر شهريار يوما ما وهو يستمع لقصص وحكايا زوجته شهرزاد أنه سيجىء يوم نجلس نتربص بالحكايات التى استمع لها دون أن نقدم جديداً للمعرفة وللحضارة الإنسانية، ولم يظن يوماً أن كتاب قصص زوجته سيضاف إلى قوائم الكتب المحظورة والمصادرة كبعض كتب الأستاذ سيد قطب ، والعميد طه حسين ، والشيخ محمد الغزالى ، والمفكر نصر حامد أبو زيد ، وحيدر حيدر وبعض قصائد أدونيس ومحمود درويش.

ولعله كان يتعجب إذا كان بيننا الآن أن الحضارة التى أنجبت وتمخض عنها كتاب مثل ألف ليلة وليلة لا يقرأ أبناؤها كتاباً كل ليلة ، بل وفشل وزيرها للثقافة والمؤسسات الثقافية أن يقف أمام هذه الدعاوى المشبوهة الدافع ، كما فشل فى مواجهة التطرف والعنف فلجأنا إلى قوانين الطوارئ بديلاً عن فشله، وكما فشل أيضاً فى الفوز بمنصب مدير عام منظمة اليونسكو ، لأنها باختصار منظمة تعنى بالثقافة والأدب والفنون والتربية والعلوم. ولك أن تكمل الباقى.

إن من ثارت ثورتهم نقض الكتاب نومهم لم ينتبهوا إلى الأغانى المبتذلة الرخيصة التى يسمعها الجميع قهراً وغصباً وهم بداخل عربات النقل ( الميكروباص ) ، أو وهم يجلسون فى محلات قص الشعر ، ولم يفيقوا من غفلتهم بعد اكتساح غشاء البكارة الصينى الأسواق المصرية ، وإلى أن يستفيقوا من غفلتهم التاريخية تلك أشير لهم بأن ألف ليلة وليلة منذ ولادتها الطبيعية ألهمت عشرات الموسيقيين فوضعوا موسيقات تحمل اسمها ، وألهبت آلاف الشعراء والأدباء فكتبوا أشعاراً وقصصاً تحمل نفس العنوان ، أما نحن فلازلنا رهائن عقولنا نفكر : أهى حرام أم مكروهة أم مندوبة أم مستحبة؟ وهل هى من نتاج إبداعنا العربى أم هى مخاض هندى قديم؟ ولا عزاء للثقافة والمثقفين فى مصر.

* أكاديمى مصرى








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة