البادى للعيان أن الأزمة فى مصر شاملة، ولابد أن تتحول المطالبة بالإصلاح السياسى إلى المطالبة بالإصلاح الشامل، وأن يكون البند الأول فى هذا الإصلاح الشامل ليس تعديلاً دستورياً محدوداً يخص سلطات الرئيس ومدة ولايته، بل يكون تعديلاً للنظام السياسى الحاكم برمته، وتحويله – عبر نصوص دستورية – من نظام استبدادى شمولى إلى نظام برلمانى دستورى، تتوازن فيه السلطات الحاكمة مع سلطة المجتمع الممثلة فى هيئاته المدنية ونقاباته وجمعياته الأهلية، ويعود التوازن بين السلطات الحاكمة نفسها، فلا تجور سلطة على أخرى، ولا تبقى كل السلطات الحقيقية فى يد شخص أياً كان، وأياً كانت الظروف.
ولا يجدر بنا العودة مرة أخرى للموازنة بين إصلاح سياسى دستورى مطلوب وبين إصلاح اقتصادى اجتماعى بات أكثر إلحاحاً من أى وقت مضى، وأخشى أن أقول إنه لا إصلاح إلا إذا تغيرت طبيعة النظام وصيغته الحالية إلى طبيعة تعددية فعلاً، وصيغة تعبر عن توازن المصالح التى يجب أن يرعاها الدستور.
نحن لا نطالب بدستور يتحول إلى نصوص على الورق لا قيمة لها ولا وزن أمام رغبات الحاكم وأهوائه، نريد دستوراً يحكم الحاكم، لا أن يتحكم فيه الحاكم ويغيره متى شاء، ولا يغيره إذا أراد، وعوضاً عن أن نطالب الرئيس بإصدار تعديل دستورى يستفتى عليه الشعب، يجب أن نطالب بتشكيل جمعية وطنية تأسيسية تكون مهمتها وضع الدستور الجديد، دستور لا يتضمن برامج سياسية، ولكنه يتضمن الثوابت والقواعد التى يقوم عليها النظام السياسى فى البلاد.
مطلوب تعديل الدستور حتى لا يصبح شرط الاستمرار فى منصب الرئاسة مجرد أن يبقى الرئيس على قيد الحياة، وأنتم تعرفون أن الدستور الحالى لا يطلب من رئيس الجمهورية شيء إلا أن يعيش ليبقى فى منصبه، ولا يلزمه بفترة يرجع بعدها إلى صفوف الشعب، بل وترك له الحبل على الغارب ليستمر بدل المدة الرئاسية الواحدة ست مدد ينسى الشعب خلالها الحاكم السابق، ولا يأمل كثير من أبناء الشعب فى أن يعيشوا حتى يروا الحاكم التالي، نحن لا يعيش لنا رئيس سابق أبداً، فالرئيس السابق عندنا هو الرئيس الذى فارق الحياة.
لابد أن نعدل هذا الدستور لنمنح أنفسنا دستوراً يعامل الرئيس باعتباره واحداً من البشر يصيب ويخطئ، لا أن يجعل منه صاحب القرارات التاريخية، وصاحب التوجيهات الحكيمة لمرؤوسيه فى أشياء تخصصوا فيها، ولا يعرفها السيد الرئيس ولا يعرف عنها إلا ما تعرفه خالتى زهرة، ومع ذلك يقف الواحد منهم وبلاهة الأطفال فى كلماته يقول إنه فعل كذا بناء على تعليمات السيد الرئيس.
نريد دستوراً يجعل مجلس الشعب سلطة حقيقية لا ينتقص منها سلطات رئيس الجمهورية، وتحوله رقيباً فعلياً على الحكومة، تختار الأغلبية فيه رئيس الوزراء حتى لا يكون موظفاً لدى الرئيس يزيحه وقت ما يريد، أو يلبسه مساوئ النظام إذا ادلهمت الأمور.
نريد دستوراً يمنح رئيس الوزراء والحكومة سلطة حقيقية فى تقرير سياسة الحكم، فرئيس الوزراء عندنا مجرد موظف كبير لا يملك إلا الولاء الشخصى للرئيس(أو لنجله) إذا رضى عنه ثبته، وإذا غضب عليه أقاله، فلا سلطة له إزاء الرئيس، ولا يعمل إلا بتوجيهاته، وليس طبقاً لبرنامج حكومته التى انتخبها الشعب على أساسه.
نريد أن ننتقل من نظام رئاسى واسع السلطات حد الاستبداد، إلى نظام ديمقراطى برلمانى تتوازن فيه السلطات الحاكمة، ويتحول فيه المركز الرئيسى فى النظام من فرد إلى مجموعة مؤسسات، لكل مؤسسة من الصلاحيات ما لا تفتئت به على الأخرى، ولا تنقص دورها ولا تصادره.
الحالة المصرية التى تمتد فى التاريخ إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين والقائمة على حكم الفرد الفرعون وتأليهه، لن يكون تطويرها وإصلاحها حقيقياً إلا إذا انتقلنا من الحكم الفردى إلى حكم المؤسسات الدستورية، ولن تتحقق هذه الحالة فى مصر إلا عبر تفكيك الجمهورية الرئاسية وإقامة جمهورية برلمانية، يكون القول الفصل فيها لصندوق الاقتراع الذى يأتى بالحكومة ويسقطها عبر عملية انتخابات مضمونة النزاهة والحيدة.
تلك مسيرة الألف ميل، وعلينا الآن أن نخطو خطوتنا الأولى تجاه المستقبل، تلك الخطوة التى تبدأ من دستور للجمهورية البرلمانية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة