لا يميل المصريون إلى العنف ،تاريخهم الطويل الذين يحملونه على ظهورهم وفى جيناتهم يدفعهم إلى التعبير الفنى عن أعقد مشكلاتهم ،ونظره واحدة إلى الرصيف المقابل لمجلس الشعب ، تكشف كيف حول المعتصمون على اختلاف مطالبهم وأسباب احتجاجهم إلى نوع من الفرجة المسرحية.
اعتصم وأبناؤه الثلاثة بعد رفض قبول ابنته بإحدى مدارس شبرا بطريقة مبتكرة للغاية ، أحضر حبالا ونصب مشانق لنفسه ولأبنائه ووضع الحبال حول رقابهم ،وعندما مرض ابنه الأكبر وارتفعت درجة حرارته عمل له الكمادات على الرصيف رافضا تلقيه العلاج بالمستشفى ،كأنه يبحث عن كاميرا الفضائيات التى يعرف أنها تطارده وتنتظر ما يقوم به من ُفرجة لتوظفه على شاشاتها .
عمال شركة النوبارية للهندسة الزراعية دخلوا الاحتجاجات بشكل كلاسيكى ،يعنى باللافتات والهتافات ، اعتراضا على عدم تعيين مفوض عام للشركة ، لكنهم تحولوا إلى غناء الشعارات ثم انتهوا إلى خلع ملابسهم للمسئولين الذين تجاهلوا طلباتهم .
معتصمون آخرون عقدوا محاكمات طريفة للمسئولين فى الحكومة وفى شركاتهم وسردوا سجلات أعمالهم أمام المارة ،ومتظاهرون حولولوا البطاطين والملاءات التى ينامون عليها على الرصيف إلى أكفان وشيعوا جنازات الرفض والتجاهل ووضعوا مطالبهم على واجهات النعوش .
حتى عندما تم الاستجابة لمطالب بعض المحتجين تحول رصيف البرلمان إلى مناسبة سعيدة تحزّم فيها الرجال ورقصوا وغنوا جنبا إلى جنب مع غضب وحزن وبكاء من لم يحالفهم الحظ أو عجزوا عن كسر عناد المسئولين .
من ناحيتها لم تعد كاميرات الفضائيات تبحث عن أسباب الاحتجاج ودوافعه ولا عن الفئات الجديدة المنضمة إلى صفوف المحتجين على رصيف البرلمان ولكنها باتت تبحث عن الصورة الجديدة الطريفة وعن ابتكارات المحتجين ، وأدرك المحتجون أنفسهم هذا التوجه لدى الفضائيات فأصبحوا حريصين على التجديد كل يوم فى طريقة عرض مطالبهم خوفا من انطفاء النور عليهم وتجاهل ما يعرضونه من مطالب .
مع تحول الاحتجاج إلى فن ومع هرولة الفضائيات حول المناظر الأكثر إبهارا فى الاحتجاجات وهرولة المسئولين وراء الأصوات الأكثر علوا فيها ،توارى بعض أصحاب الحقوق من المحتجين غير الموهوبين فى فنون الفرجة ،ولم يعد الاحتجاج والتظاهر فى حد ذاته وسيلة للضغط لنيل الحقوق كما لم يعد أحد يدقق ويفحص ما للمحتجين والمعتصمين من حقوق وما للمحتج عليهم ،وهل يمكن أن يكون بعض المحتجين بلا سند أو حق ؟ أم أن الوضع العام المختنق والمأزوم سياسيا واقتصاديا قد منح الحق المطلق بالاحتجاج للجميع!
أخشى أن يتحول فعل الاحتجاج إلى نوع من التنفيث الفنى فقط ، عن ضيق الناس ،مثل بعض المانشيتات الزاعقة فى صحف المعارضة التى لا تخدم سوى الحكومة حسب معادلة "قولوا ما تشاءون ونفعل نحن ما نشاء".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة