لم يكن الموقف المصرى، يوماً ما بعيداً عن الانحياز حتى فى عهد الزعيم جمال عبد الناصر، الذى استضافت مصر خلال رئاسته القمة الثانية لدول عدم الانحياز عام 1964، فمصر خرجت من عباءة السلطان العثمانى، مروراً بالاحتلال الإنجليزى، وصولاً للرهان على الألمان فى السنوات الأخيرة لحكم الملك فاروق، تلا ذلك التحالف السياسى مع السوفيت.. إلا أن إعلان الرئيس الراحل أنور السادات بأن "99% من أوراق حل أزمات الشرق الأوسط فى يد أمريكا" عقب توقف العمليات العسكرية فى حرب أكتوبر 1973 كان الأكثر صدمة، وفتح الباب على مصراعيه أمام سيل من التدخلات فى الشأن المصرى، قابلته الأقليات وقوى المعارضة بداية من أقباط المهجر وصولاً للجمعية الوطنية للتغيير بزعامة البرادعى، بالترحاب والرهان ضمناً وجهراً على الحل الأمريكى.
لا أنحاز لأولئك الزاعمين بأن المصريين لا يزالوا غير مؤهلين لممارسة الديمقراطية، لكنى مؤمن بأنهم مبتلون بهيمنة أجندات ليست مصرية تأرجح ولائها على مدار تاريخ هذا البلد فكان يوماً لمعتمد بريطانى، خبير عسكرى سوفيتى، ثم عقالاً يدس الوهابية فى العقول بأموال النفط، وأخيراً بناية ترفع العلم الأمريكى تحدد أوجه صرف المعونة وأوجه عدم صرفها.. ولم يجد المصريون يوماً بديلاً مختلفاً فى المعارضة، فكان نهج النخبة السياسية بكل أطيافه يراهن دوماً على الخارج ـ أمريكاً أو غير ذلك ـ فأموال الرئيس العراقى الراحل صدام حسين، وغيره طغت على مصرية الناصريين بصحفهم وأحزابهم ومشاريعهم، وأموال السعودية طالت الجماعات السلفية والنظام المصرى نفسه فى فترة حاسمة من تاريخ مصر، وكما هو واضح دعم الولايات المتحدة لأقباط المهجر، لا يخفى على أحد خطوط الاتصال المفتوحة بين الإخوان المسلمين والخارجية الأمريكية لتأمين كافة سيناريوهات ما بعد مبارك، ومؤخراً وقع البرادعى وأنصاره فى الخطأ نفسه بالرهان على أمريكا.
مبكراً، أطلت اللعنة الأمريكية بوجهها على الجمعية الوطنية للتغيير، بزعامة البرادعى قبل أن تحقق أى إنجاز لها فى معركة الإصلاح، حيث يتعرض الناشط السياسى جورج إسحاق لحملة تصفية حسابات لشطب عضويته من حركة كفاية، بحجه عزمه السفر للولايات المتحدة ضمن وفد الجمعية الوطنية الأمر الذى يخالف البيان التأسيسى للحركة القائم على شعار "لا للتمديد لا للتوريث لا للإمبريالية الأمريكية".. الأمر لا يخلو من رائحة المؤامرة على تاريخ إسحاق وقيمته، فكلانا يعلم مدى صدق نوايا الرجل وأهدافه، لكنها فى كل الأحوال "مؤامرة مشروعة"، فلا يجوز مهاجمة النظام بحجه العمالة لأمريكا، والعمل وفق أجندة غربية، وفى الوقت نفسه الاستقواء بأمريكا، والتغنى بحلم الديمقراطية الأمريكية.
ختاماً، فإن المصريين ناضجون بما يكفى، ربما تجرفهم مشاعرهم نحو ومضات التغيير السريعة، لكنهم دوماً ينفضوا من حولها بسبب الرهان على الخارج، هذا حدث قديماً، وسيحدث قريباً مع أنصار البرادعى فى حال استمرارهم فى الرهان على الغرب.. وسيظل المصريون دوماً فى انتظار بديل مصرى الأجندة قبل الجنسية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة