وقع الجانب الكينى هو الآخر على الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل، وهو الذى كانت تعتبره القاهرة وسيط تهدئة، ذهب دفتر التوقيعات إليه ليوقع فى نيروبى وليس فى عنتيبى، فى الوقت الذى ازدهرت فيه القاهرة بالندوات والمؤتمرات والتحركات والحركات والفضائيات والمقالات والتصريحات الرسمية التى تؤكد أن مياه النيل خط أحمر وأنها أمن قومى، وأفاق المعارضون التقليديون فجأة، واكتشفوا أن مصر غائبة عن أفريقيا، وأننا فقدنا، أو فى طريقنا إلى فقدان، أعز ما نملك.
التطبيعيون فى الصحف القومية، والصحف «المائعة» رفضوا تحميل إسرائيل وأمريكا مسؤولية ما يحدث فى دول المنبع، واعتبر الحكماء أن ما يحدث ليس صراعا وإنما هو تفاوض خشن بين مصر ودول ظروفها الاقتصادية صعبة، وبدأت الإذاعات الوطنية تخرج من الأدراج بعض الأغنيات «النيلية»، وأصبحنا فجأة فى خطر! التقى السيد رئيس الوزراء رؤساء الصحف المستقلة والحزبية فى القرية الذكية، قال لهم إن مياه النيل أمن قومى، وأنهم (مع بعض يعنى) شكلوا مجلسا أعلى برئاسته وعقدوا عشرة أو خمسة عشر اجتماعا(لم يقل العدد بالضبط) من أول السنة حتى الآن، وأن كل ما يناقش يعرفه الإعلام، وتحدث فى معلومات يعرفها رجل الشارع، ولكنه قال فى النهاية: «نحن نتحرك باعتدال وليس بانفعال، لأن الحق معنا والمجتمع الدولى معنا» و«إن الرئيس (يقصد مبارك) أخذ تأكيدات من رئيس وزراء إيطاليا تؤكد أن روما تدعم موقف مصر وهذا اتجاه إيجابى»، ربما استنادا إلى البروتوكول الموقع فى روما عام 1891 بين بريطانيا وإيطاليا الذى تنص المادة الثالثة منه «على أن «تتعهد إيطاليا بعدم إقامة منشآت لأغراض الرى على نهر عطبرة يكون من شأنها تعديل أو إعاقة تدفق مياه النيل على نحو محسوس» أو على المذكرات التى جرى تبادلها بين المستعمرين سنة1935 وتعترف فيها الحكومة الإيطالية بالحقوق المائية المكتسبة لمصر والسودان فى مياه النيل الأبيض والأزرق، وتتعهد إيطاليا نيابة عن إثيوبيا بعدم إقامة أى منشآت فى أعالى النيل على هذين الفرعين أو روافدهما، أنت تستجدى المستعمر القديم لكى يحل مشكلتك مع بلد يرفض الاتفاقيات التى تمت أيام الاستعمار، وتعتبر وعد بيرلسكونى مطمئنا، وهذا هو الفشل بعينه.
الإثيوبيون وصلوا إلى 85 مليون نسمة، ويخرج النيل من عيونهم - على حد تعبير عادل حمودة - ويصب فى قلوبنا، أخلاقهم متشابهة معنا، وربما متطابقة، طيبة إلى حد التفريط، وخبث خفى إلى حد التضليل، سلوك يتجنب العنف ويخشى السلطة وينافقها ويصلى خلفها دون أن يثق فيها، والاستهانة بهم وعدم سماع صوتهم سيزيد الأمر صعوبة، والحديث عن أيادينا البيضاء عليهم إهانة لهم ولنا.
ولقد شعرت بالأسى عندما قرأت تقريرا رسميا فى «المصرى اليوم» يؤكد أن دول حوض النيل ليست ساحة خالية لإسرائيل، وأن الوجود المصرى هناك أقوى، لأن القاهرة لها 8 سفارات مقابل 3، وقائم بأعمال فى إريتريا، إريتريا التى يفخر التقرير بأن مصر دعمت مدارسها بخمسة مدرسين لغة عربية، وأن المنح المقدمة لدارسيها ارتفعت من أربع منح قبل ثلاث سنوات إلى 19 العام الدراسى السابق.
النيل الذى كان فى الأساطير يأتى من الجنة أوشك على المجىء من الجحيم، والذى كان يقسم المصرى القديم أمام أوزير بأنه لن يلوثه، هو النيل الذى بات »مقلبا« للنفايات، وتحجبه العمارات والنوادى والكافتيريات عن عيون المصرى الجديد، المحاصر فى بيته وعمله ولا يثق فى مستقبله، والذى اكتشف أن حكامه غير قادرين على ضمان تدفقه.