بعد صراع طويل مع المرض ومعاناة شديدة مع تقلبات الزمن نزل بالأمس تتر نهاية مسلسل درامى عظيم اسمه أسامة أنور عكاشة.. عكاشة لم يفاجئنا بالموت كما كان يفعل فى أعماله الدرامية، بل ظل على مدار ثلاث سنوات يصارع المرض وكأنه يمهد لنا أن موعد مشهد الفراق قد اقترب..إن المسلسل الذى بدأ بميلاده فى مدينة طنطا سنة 1941 وتعقدت أحداثه سنة 1962 حينما تخرج من كلية الآداب وعمل أخصائيا اجتماعيا ثم مدرسا فى أسيوط سيتوقف عند الحلقة 69 ولن يفرز المزيد من الأعمال الدرامية الخالدة.
هناك ألف طريقة وطريقة لأن أكتب بها عن أسامة انور عكاشة، وهناك ألف صيغة وصيغة لأن أكتب بها عن رجل على رأس قائمة أفضل من كتبوا وأفضل من صاغوا وتلاعبوا بالكلمات وسخروها لخدمة الناس والوطن والترفيه عنهم فى نفس ذات الوقت، والكتابة عن رجل بهذا الحجم وهذه القيمة لو تعلمون هى أصعب مايمكن فعله.. لذلك دعونى أكتب لكم عن لحظة الندم التى أعيشها الآن.
حتى 10 سنوات ماضية كان أسامة أنور عكاشة بالنسبة لى هو الرجل صاحب المسلسل الطويل الكئيب "ليالى الحلمية" الذى كان يحرمنى والدى بسببه من متعة التعامل الفردى والمزاجى مع التلفزيون، كان يستحوذ على الشاشة ويطلب الهدوء ويظل يحدثنى عن هذا المسلسل وكأنه يحدثنى عن كتاب تاريخ واجب على المصريين قرائته، كان يقول لى دائما: اقعد اتفرج عشان تفهم وتعرف، وحينما أبدى رفضى يضحك كثيرا ويقول: لما تكبر هتفهم قيمة المسلسل..ولما كبرت فهمت، شاهدت الأجزاء الخمسة كاملة وعرفت لماذا قال لى أبى رحمه الله أن تاريخ مصر الحديث سياسيا واجتماعيا ومستقبلها موجود فى الأجزاء الخمسة لليالى الحلمية، شاهدت الأجزاء الخمسة وتأكدت أننى أمام معجزة كل هذه الشخوص وكل هذه السنوات وكل هذه الأمكنة تلاعب بها أسامة انور عكاشة دون أن يفقد خيطا واحدا، ودون أن تضعف فى يده حبكة درامية، كل هذه الشخوص وكل هذه التغيرات وكل هذه الإنفعالات وكل هذه الإنقلابات والتطورات نسجها أسامة أنور عكاشة ليصنع منها تاريخ مصر المصور ويتنبأ بمستقبلها بالصوت والصورة أيضا.. ارجعوا إلى ليالى الحلمية وسوف تشاهدون مصر على حقيقتها، سيرى كل واحد منكم نفسه فى شخوصها بداية من سليم البدرى ومرورا بزينهم وناجى السماحى والعمدة سليمان غانم وحتى على البدرى قبل وبعد التعديل و سولى ابن البرنسيسة نورهان.. رجعوا لليالى الحلمية وذاكروا حلقاتها الأخيرة جيدا لتعرفوا أن أسامة أنور عكاشة كان أول من تنبأ بوضعنا الحالى وما نحن فيه الأن.. إرجعوا إلى أرابيسك ورحلة أبو العلا البشرى وستعرفوا أن أسامة أنور عكاشة أدرك أن أزمة هذا الوطن أنه بدأ يخلق قيمه وإخلاقه فقرر هو أن يحمل على عاتقه هم إعادة نشرها وغرسها فى نفوس الناس ولم يمل من ذلك فكتب ضمير أبلة حكمت والراية البيضا.
هذا الرجل الذى رحل بعد سنوات من المرض والصراع مع تردى الحالة السياسية والإجتماعية ومواجهة دخلاء الفن والثقافة ولم يشرفنى القدر بلقائه سوى مرتين غلب عليهما الطابع الصحفى ، لم يكن مجرد سيناريست او مؤلف ولا يصح أن نقول أنه كان سيناريست أو مؤلف فى زمن أصبح المؤلف والسيناريست فيه مجرد ترزى وكاتب سطور بلا معنى، هذا الرجل رحل وتركنى أغوص فى بحر الندم واللوم لأننى لم أذهب إليه كما كنت أخطط منذ شهرين لأقبل يده وأخبره كم كانت ليالى الحلمية رائعة وكم كانت أرابيسك موجعة ولوجعها حلاوة لا تزول.. كنت أرى أن هذا حقنا عليه أن نذهب إليه وننحنى تلك الإنحناءة الخفيفة ونقول له اطمئن فلقد وصلت رسائلك، ولكن هذه عادتنا لا نبدى امتنان ولا نتذكر ان نشكر من يستحق إلا بعد أن يفوت الأوان.. وهاهو الأوان قد فات.. ورحل أسامة أنور عكاشة وترك الدراما يتيمة، ولكنه ترك للناس دروس مصورة فى القيم والأخلاق داخل رحلة أبو العلا البشرى وكنوز من الشهامة والشجاعة مع حسن أرابيسك ورسم للوطن وللمجتمع طرق كثيرة للنجاة والتطور فى ليالى الحلمية والراية البيضا.. الذى عاش ومات وهو يدعو ألا نرفعها أبدا.