المتابع بكثير من التأمل لطبيعة العلاقة بين البابا شنودة والرئيس مبارك على مدار الثلاثين عاما الماضية، سيدرك بكل سهولة أن الموقف الأخير للبابا شنودة فى قضية طلاق المسيحيين، وإعلانه التحدى الواضح والمباشر للقضاء، وبالتالى للدولة ككيان ومؤسسة وسلطة، ليس مجرد انفعال لحظى، وإنما انقلاب حقيقى على طبيعة تلك العلاقة التى جمعته بالرئيس مبارك و التى ظلت سائرة طوال العقود الماضية فى اتجاه واحد فقط.. هو التأييد الكامل من جانب البابا للرئيس مبارك ونظامه، حتى ولو كان ذلك يتم على عكس رغبة أغلب أبناء الكنيسة الأرثوذكسية، وحتى فى اللحظات التى كان يختلف فيها البابا مع الرئيس مبارك أو يغضب، بسبب تجاوز ما تم فى حق أبناء كنيسته، كان البابا يتجنب دائما أى صدام مباشر مع الرئيس ومع السلطة، ويلجأ إلى الصمت والاعتكاف وأحيانا كان يلجأ إلى تلك الرسائل المبطنة بالكثير من الرجاء..
حتى قبل أزمة الطلاق، وقرار المحكمة الإدارية العليا فى يوم 29 مايو الماضى بأحقية المطلقين فى الزواج الثانى، كان الأمر يتم على هذا الشكل.. الدولة تفعل ماتشاء والبابا شنودة إذا أحب أن يعترض أو يرفض يصمت، أو يستخدم كل ما هو رقيق من أسلوب فى الرد على الدولة.. ولكن فى أزمة الطلاق اختلف الوضع تماما، لم يصمت البابا ولم يعتكف، بل أعلن التحدى منذ اللحظة الأولى لصدور قرار المحكمة، وقال إن هذا الحكم لا يخص الكنيسة لأنه لا شىء يحكم الكنيسة إلا الكتاب المقدس، ثم عاد البابا فى تصريح آخر فى المؤتمر الصحفى الذى عقده وكأنه يريد أن يقول للدولة، إن الأمر بجد وليس مجرد تصريحات عفوية خرجت فى لحظة حزن عقب قرار المحكمة، وأكد أنه مستعد لمواجهة ما يحدث إلى آخر مدى فى سبيل الحفاظ على العقيدة الأرثوذكسية والتعاليم المسيحية..لن نناقش مدى اتفاق واختلاف قرار المحكمة مع العقيدة المسيحية، فتلك أمور من المؤكد أن البابا أدرى وأعلم بها، حتى ولو كان بعض أبناء الكنيسة يختلفون معه فى ذلك..ولكن تصريح البابا الأخير والخاص بمواجهة السلطة إلى آخر مدى من أجل إيقاف تنفيذ حكم الإدارية العليا، لم يكن مجرد تأكيد على تحديه للقضاء وللدولة، بل كان تصريحا أخرج قرار المحكمة من صيغته القضائية والمدنية، وحول الأمر وكأن الدولة وقضاءها يسعون لهدم الكنيسة والتلاعب فى العقيدة الأرثوذكسية، وسواء أدرك البابا ذلك أم لم يدرك، فقد حول تصريحه هذا القضية إلى معركة يخوضها أبناء الكنيسة المصرية، تحت لواء الدفاع عن العقيدة المسيحية، بعد أن كانت فى الماضى مجرد قضية تتعلق بأمور الزواج والطلاق.
البابا الذى يعيش مرحلة صحية حرجة، قرر ألا يرحل ويترك الكنيسة دون بصمة واضحة تضعه فى مصاف الأبطال، وتمسح بأستيكة كل الاتهامات التى وجهت له على مدار السنوات الماضية من بعض العلمانيين، بأنه ظل خاضعا لنظام الرئيس مبارك، ولم يدافع عن أبناء الكنيسة الأرثوذكسية فى كل الأزمات والفتن التى يعتبرها أبناء الكنيسة اضطهادا منظما من جانب النظام لهم.
إنها تغريدة البجعة.. يطلقها البابا شنودة وكأنه يعوض مافاته من سنوات طويلة، ظل خلالها لا يستعمل من أسلحته سوى الصمت والاعتكاف والرسائل الرقيقة.. واليوم وفى تلك المعركة التى قد تبدو الأخيرة، قرر البابا أن يحول الصمت إلى تصريحات ساخنة، والاعتكاف إلى مؤتمرات صحفية، لكى يكون تحديه واضحا للكل، وحتى الرسائل الرقيقة التى اعتاد أن يخاطب بها الرئيس، تحولت إلى رسائل إحراج، ففى هذه المرة كان مباشرا وكأنه يريد أن يضع الرئيس فى «كورنر»، وصرح بقوله أنه يثق فى أن الرئيس مبارك سيتدخل لحل الأزمة، ووقف تنفيذ حكم الزواج الثانى.. قالها البابا شنودة وهو يعلم تماما أنه بهذا الشكل يضع رئيس الدولة فى حرج بالغ.. وإحراج الرئيس هنا كان بوضعه أمام طريقين لا ثالث لهما، إما أن يتدخل فى شؤون القضاء، وبذلك يهدم دولة المؤسسات ويهين القضاء، وإما أن يرفض التدخل فى شؤون القضاء وفى تلك الحالة يجب أن يواجه طوفان التهديدات والاتهامات المسيحية فى الخارج والداخل، والتى ستكون فى هذه المرة بلا شك أقوى وأفظع لأنها لن تكون اتهامات عارية كما يحدث فى كل مرة، بل اتهامات تحت غطاء كنسى وشرعية بابوية.