لم يختار البقاء بين نجوم الصفوف الأولى للعمل السياسى فى مصر، رغم أنه كان يمتلك الصفات المؤهلة لذلك، وفضل أن يكون نجماً فى دائرته طوخ قليوبية لإيمانه الشديد بأن التغيير لابد أن يأتى من أسفل، من بسطاء الناس.
هكذا عاش محمد بركات الذى كسب قوت يومه من عمله فى مهنة المحاماة، وصال وجال فى قرى ونجوع محافظة القليوبية، داعياً للتغيير ومسانداً لرجاله، وتمتع بقدرة هائلة على التحدث مع الناس البسيطة بلغتهم دون استعلاء منه عليهم، فكان بذلك نموذجاً للمحرض الجماهيرى الذى يستطيع إقناع الناس برسالته.
رحل محمد بركات أمس، الخميس، وحين تلقيت خبر الرحيل رجعت إلى الوراء سنوات، متذكراً كم مرة جلسنا تحت سقف بيته فى طوخ أو قريته "نامول" نتناقش، ثم نقرر ماذا سنفعل فى المعركة السياسية التى نتحاور بسببها، كنا أجيالاً مختلفة، وكان هو لا يفرق بين كبير وصغير، فالكل أمام المهمة سواء، وشهدت هذه اللقاءات استضافة رموز كبيرة فى العمل السياسى والنضالى مثل خالد محيى الدين، وفى منزله بقرية نامول، دارت المناقشات الأولى حول تأسيس الحزب الناصرى وشارك فيها كبار من الذين عملوا إلى جوار الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، مثل ضياء الدين داوود، والراحل الفريق أول محمد فوزى، والراحل فريد عبد الكريم، وآخرين، وانتهى ذلك بتقديم بركات أوراق الحزب وكان ضياء الدين داوود هو وكيل المؤسسين، وبعد رفض لجنة الأحزاب له، منحته المحكمة الموافقة، ولم يكمل بركات دوره مع الحزب مثله مثل الكثيرين الذين فرقتهم الخلافات ولم يوحدهم الهدف، رغم أنه وللتاريخ صاحب فكرته وصاحب مبادرة التقدم به.
محمد بركات هو ابن الجيل الذى عاش حلم ثورة يوليو، وانخرط مبكراً فى تنظيماتها السياسية، حتى جاءت قضية 15 مايو عام 1971، وهى القضية التى قام فيها الرئيس الراحل أنور السادات بوضع كل الرموز الذين عملوا مع جمال عبد الناصر فى السجن، ومن أشهرهم الوزراء الفريق محمد فوزى وزير الحربية، ومحمد فائق وزير الإرشاد القومى (الإعلام) وضياء الدين داوود، وشعراوى جمعة وزير الداخلية، وعلى صبرى نائب رئيس الجمهورية، وسامى شرف مدير مكتب جمال عبد الناصر، وعبد المحسن أبو النور وأمين هويدى ولبيب شقير وفريد عبد الكريم وآخرون.
لم تقتصر سجون السادات على كبار رجال الحكم، وإنما شملت مئات آخرين ممن كانوا أعضاء فى التنظيمات السياسية مثل التنظيم الطليعى وكان منهم محمد بركات الذى قضت المحكمة بسجنه عامين، وبعد أن خرج ترك القاهرة ليعود إلى مسقط رأسه فى طوخ بادئاً رحلة النضال بين ناسه وأهله، وعاد مرة أخرى إلى المعتقل مع حملة 5 سبتمبر عام 1981، وهى الحملة التى قرر فيها السادات اعتقال آلاف من معارضيه، وخرج بركات من المعتقل ليواصل نضاله، وفى السنوات الأخيرة داهمه المرض، لكنه لم يستسلم له فظل يبحث عن منافذ للتغيير، لكنها لم تكن بوهج الماضى، هذا الوهج الذى يظل انكسار الأمل فى غد مشرق قريب هو أهم خفوته، رحم الله محمد بركات وأسكنه فسيح جناته.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة