ضمن حظوظى الحسنة فى مهنة الصحافة وعالم الكتابة عموما أننى عرفت أساتذة ومبدعين، وتعاملت مع بعضهم عن قرب، واستفدت من ذلك قدر ما تيسر من سبل الاستفادة، ومن هؤلاء يأتى أستاذى محمد الخولى الذى تسلم منذ أيام "11 مايو" جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة عن كتاب "انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم"، وتم تسليم الجائزة فى مقر منظمة اليونسكو العالمية فى باريس.
عرفت الأستاذ محمد الخولى عام 1998 مع بداية عملى نائبا للأستاذ الكبير جلال عارف فى رئاسة مكتب جريدة البيان الإماراتية بالقاهرة، وكان الخولى كاتبا كبيرا فيها منذ سنوات، وشملت إبداعاته على صفحات الجريدة مقال أسبوعى للرأى، وصفحة أخرى لترجمة آخر وأهم الكتب الصادرة فى الغرب وخاصة فى أمريكا، ومن خلالهما كان باستطاعتى والآخرين أيضا التزود بثقافة رفيعة من قلم رفيع، ففى مقال الرأى تميز بنهج يقوم على غزارة المعلومات التى تسير بفكرته إلى بر التفرد، وبالرغم من انتمائه أيدلوجيا إلى الناصرية والقومية، إلا أنه يعد من الأقلام الرفيعة القليلة التى لها اطلاع وافر على مستجدات الفكر والسياسة فى أمريكا خاصة والغرب عامة، وعبر هذا الاطلاع تزداد قناعته بأنه لا سبيل لخروج أمتنا العربية من كبوتها إلا عبر القومية العربية.
أما فى مجال الترجمة الذى يعد الخولى أحد كبارها العرب حاليا، فتأتى ميزة أنه لا يقدم لقارئه نقلا لكتاب، وإنما يجمع بين أمانة النقل وإبداع اللغة المطرزة بموسوعة ثقافية وسياسية منه، ومن هذه الخلفية لا أنسى له ترجمته لكتاب "أمة الوجبات السريعة" والذى قرأته كاملا على صفحات جريدة البيان، ويشمل استعراضا وتأصيلا لرحلة تحكم الوجبات السريعة مثل "كنتاكى" فى بطون وعقول العالم شعوب العالم، وبالإضافة إلى ترجمته لكتاب عن مصر فى الحرب العالمية الثانية، كما عرفت منه وعبر ترجماته فى جريدة البيان سر تقدم الصين، ومعجزات شرق آسيا وغيرها.
لا يقتصر إبداع الخولى على الكتابة وفقط، وإنما يمتلك موهبة نادرة فى الحكى عن الفن والفنانين وظرفاء العصر، وحكايات سياسية نادرة فهو عمل فى مكتب جمال عبد الناصر، ومذيعا فى صوت العرب، ومتحدثا باسم مجلس الوزراء أيام كان الدكتور أحمد كمال أبو المجد وزيرا للإعلام فى النصف الأول من سبعينات القرن الماضى، والأهم من ذلك أنه كانت له مهام نضالية سرية فى بلدان عربية مع الراحل العظيم فتحى الديب الذى كان مسئول الاتصال المصرى بكل الثورات التى تفجرت فى المنطقة العربية منذ الخمسينات من القرن الماضى، وعلى رأسها ثورة الجزائر، وهذا الرجل يحتاج إلى تكريم عربى من نوع خاص، وكان لى شرف الاقتراب منه فى سنواته الأخيرة بفضل تلميذه محمد الخولى.
المهام النضالية السرية التى سمعتها من الخولى لو قدر له أن يضعها فى كتاب ستكون ذخيرة عظيمة لإثبات كم كانت مصر كبيرة بحجم عمل مصر من أجل رسالتها القومية التى تعود بالفائدة على المواطن المصرى البسيط.
فى الفترة التى كنت أعد فيها مادة كتابى "أم كلثوم وحكام مصر"، كنت أسأله كثيرا، وكان لا يبخل أبدا فى تقديم النصيحة، بل زودنى بمراجع من مكتبته، وكشف لى هذا الأمر أننى أمام فنان كبير فى التذوق وجمال الصوت والذاكرة المتحركة فى الغناء القديم، ولا أنسى نصيحته حين حدثته عن قلقى الكبير من مادة الكتاب، وكان ذلك بعد إذاعة مسلسل "أم كلثوم" للمرة الأولى، فرد: "ليس أمامك الآن إلا أن ترفع شعار الإنجاز قبل التجويد"، فقلت له: "هاجس التجويد يطاردنى" فرد: "التجويد سقف لا نهاية له، ومن لا يفهم سره ستبقى مادة كتبه حبيسة أدراجه، وأنا أثق فى أنك أنجزت مادة جيدة فتوكل على الله"، وخرج الكتاب بفضل هذه النصيحة.
مبروك للأستاذ محمد الخولى الجائزة التى تشرفت به قبل أن يتشرف بها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة