محمد حماد

الخوف المشروب الرسمى للطغاة

الأحد، 20 يونيو 2010 08:04 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لباولو كويلو قصة قصيرة بعنوان "مشنقة" ترجمها بتصرف صديقى العزيز الدكتور وائل عزيز، أهديها اليوم إلى محبى كويلو، وأهديها إلينا جميعاً، لعلها تترك فينا الأثر الذى من أجله كتبها الروائى الكبير، تقول وقائع القصة إن البلدة كانت نموذجاً للجنة على الأرض، يفعل مواطنوها ما يحلو لهم، تسير الأمور فيما بينهم على أفضل ما يكون، لم يكن بالسجن أحد، ففكروا أن يحولوه متحفاً، أما القاضى فكان يقضى معظم وقته فى المنزل، ولا يذهب إلى المحكمة إلا لتغيير الجو ومقابلة الأصدقاء القدامى.

كان الجميع سعيداً باستثناء العمدة، الذى كان يبحث عن السيطرة فلا يجدها، ولم ينجح العمدة فى أن "يخترع" السلطة، حتى بعد أن سن عدداً من القوانين العبثية التى انصرف الناس عنها وتجاهلوها، تفتق ذهن العمدة عن الحل، سارع بجلب عدد من العمال من البلدان المجاورة، وأعطاهم أوامر ببدء العمل على الفور فى الميدان الرئيسى للبلدة، بعد أن أحاطوا أنفسهم بأكسية ضخمة من القماش بحيث لا يزعجهم فى عملهم أحد، والواقع أن أحداً لم يهتم بما يصنعون، على بعد أمتار من المكان كان المارة يسمعون صوت بعض المطارق، أو مناشير الخشب، أو أحد الملاحظين وهو يوجه العمال، وفيما عدا ذلك لم يكن هناك ما يلفت النظر فيما يصنعون، كان العمدة يراقب تطور العمل بشوق وإعجاب، حتى جاء موعد الافتتاح.

دعا العمدة جميع المواطنين لحضور الحفل الذى كان بسيطاً ومهيباً، ووسط فضول متزايد، أزاح العمدة الستار عن العمل الجديد، مد الجميع أبصارهم، وتيقنوا منها، تهامسوا ثم استوعبوا، نعم: إنها مشنقة، كانت المشنقة محكمة الصنع، لاقت استحسان الجميع، وكان الحبل الذى يتدلى منها مزداناً بقطعة حديدة لامعة، انفض الاحتفال، لم يعلق العمدة بكلمة، وآثر المواطنون أيضاً الاكتفاء بالمشاهدة، وانصرفوا.

فى أقل من أسبوع، تزايدت الهمهمة عن سبب وجود المشنقة، لابد أن بيننا مذنبا، مجرما، قاتلا، من يكون؟، هل هو أنا؟، على أن أحمى نفسى، الهجوم خير وسيلة للدفاع، سأبدأ بهم قبل أن يتعشوا بى، وتغير شكل الحياة، استطالت طوابير الانتظار أمام كاتب العدل أطول من طوابير الخبز، شرع الناس فى تسجيل كل المستندات التى كانوا فيما مضى يستغنون عنها بكلمة الشرف، وشهادة الشهود، وبدأ القاضى فى الذهاب إلى المحكمة مرتين فى الأسبوع، ثم كل يوم، ثم فى فترة الظهيرة، ثم عين مساعدين، وبدأ الناس يتقربون إلى العمدة، ويتزلفون له ويستشيرونه فى أمور القانون وغيرها، خشية أن يقعوا فى مساءلة قانونية، تقول الأسطورة: إن المشنقة لم تستخدم قط، لكن وجودها فى الميدان كان كفيلاً بتغيير كل شىء.

تنتهى القصة، ولكن الحياة مستمرة على منوالها، صاحب الرياسة يتحكم فى الناس بطرق شتى، بتفريقهم وراء مصالحهم الذاتية، بإيقاظ روح المصلحة الشخصية وتنميتها على حساب المصلحة العامة، كل فرد يقول نفسى أولا، فيتحكم فيهم أكثر، ويستذلهم أكثر بالخوف الذى شاع بين جنبات البلدة التى كانت آمنة مطمئنة، لم يلحظ الناس ما فعله طالب الحكم بينهم، استحسنوا صنع المشنقة، ولم يفهموا أنها هى الفزاعة الذى سوف تحول حياتهم إلى جحيم على الأرض بعد أن كانت جنتهم أنهم يعيشون آمنين بلا خوف، يتعاملون بكلمة الشرف ويتخلقون فيما بينهم بالأخلاق الحسنة، ويراعون حقوق بعضهم البعض فلا يعتدى واحد على حق ليس له، حتى خلت البلدة من السجناء، وبارت صناعة السجان، وحين استيقظت مخاوفهم، زادت شرورهم، وعاد القاضى إلى عمله، وعاد السجن ليمتلأ بالمساجين، وعاد العمدة إلى ما كان فقده من سيطرة وتحكم فيهم.

إن الخوف المشروب الرسمى لحكامنا، وهو الوسيلة الوحيدة لبقائهم على كراسى السلطة ومقاعد التسلط.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة