خالد صلاح

مأساة امتحانات الثانوية العامة .. الشعب نفسه من خارج المنهج

الأربعاء، 23 يونيو 2010 11:36 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄ البكاء الاستراتيجى فى الثانوية العامة لا يرتبط بأسئلة للفهم أو أسئلة للحفظ، لكنه بكاء على مستقبل لا يراه أحد، وعلى مسارات غامضة لا تقوى هذه العائلات البسيطة على فك شفراتها المعقدة بعد أموال طائلة استثمروها فى عقول أبنائهم بلا أمل

أنت تنسى فقط يا سيدى ما جرى فى كل الأعوام السابقة خلال امتحانات الثانوية العامة، تنسى أن المشهد نفسه يتكرر من بكاء وصراخ وشكاوى وإغماءات فى القاهرة والأقاليم والقرى والنجوع، تنسى أن كل وزراء التعليم فى مصر يتحولون إلى أعداء للأسرة المصرية وخصوم للمجتمع، وأشباح مخيفة تطارد أحلام الجيل الصاعد.

تنسى أنك قرأت العناوين نفسها على صدر الصفحات الأولى للجرائد، وطالعت الصور نفسها التى تطل منها تلك الأعين المذبوحة دمعا، وأولئك الأمهات المتضرعات إلى الله لوعة، وهذه القلوب المنفطرة حسرة على مستقبل تعصف به ورقة الأسئلة، التفاضل مرة، واللغة الإنجليزية مرة أخرى، والهندسة مرات ومرات، أنت تنسى فقط وتظن أن وزيراً ما دون غيره خطط لهزيمة أولياء الأمور، أو دبر مكيدة ضد طلاب المرحلتين الأولى والثانية، أو حفر حفرة لإخوانه من البسطاء الذين ضحوا بأقواتهم على التعليم ثم لم ينالوا البر فى الثانوية العامة من بعد ما أنفقوا مما يحبون.

أذكرك فقط لأنك نسيت أنه مشهد مكرر ورتيب ومعاد صورة بصورة، وكلمة بكلمة، وتعليقا بتعليق، وأذكرك أيضا لكى تكتشف بسهولة أن المأساة لا تكمن فى ورقة الأسئلة، وأن المذبحة لا يدبرها وزير بعينه, فالدكتور أحمد زكى بدر لم يفعل أكثر مما فعله يسرى الجمل، ويسرى الجمل لم يعذب الناس بأكثر مما عذبهم به حسين كامل بهاء الدين، وحسين بهاء الدين لم يفجر دموعا أكثر من تلك التى تفرد بها فتحى سرور من قبله، نحن نختزل المسألة كل عام فى شخص الوزير, وفى واضعى الأسئلة الذين يصلى أولياء الأمور أن ينزل الله عليهم لعناته، ويحشرهم مع فرعون وهامان وأبى لهب وأمية بن خلف.

المشكلة أعقد من وزير للتعليم يسمح بأسئلة غليظة، يزعم أنها تتحدى عقيدة حفظ الإجابات لدى جمهور الطلاب، والحل أعقد أيضا من أن نبتهل إلى الله ليهوى بلعناته على وزراء التعليم وواضعى الأسئلة، أو أن نلوم المدرسين وأولياء الأمور والطلاب على تواطئهم بالحفظ الأعمى للمناهج، فما يجرى الآن من عاصفة البكاء الاستراتيجى والإغماءات الجماعية يبرهن على التردى القبيح فى أوضاعنا التعليمية فى مصر، هذا التردى الذى لا يريد أحد الاعتراف به جهرا، أو مواجهته علنا وعلى رؤوس الأشهاد.

الدولة لا تريد مصارحة الناس بأنه لم تعد هناك فرص عمل كافية لخريجى الجامعات، إلى الحد الذى ناشدت فيه نقابة الأطباء مكاتب التنسيق تخفيض عدد المقبولين فى كليات الطب، لم يعد خريجو الهندسة يحصلون على وظيفة مناسبة لتخصصاتهم، خريجو العمارة يعملون فى مصانع السيارات، وخريجو الميكانيكا يعملون فى شركات المعمار، خريجو الطب البيطرى يعملون فى السكرتارية، وخريجو طب الأسنان يشتغلون بالصيدلة، ولا مكان فى أى شركة فى مصر لخريجى العلوم أو دار العلوم أو الآداب، وحتى فى نقابة المحامين التى تعتمد على العمل الخاص فى الأساس، يعلن النقيب عن رغبته فى تنقية الجداول من ربع مليون محام يعملون على سيارات الميكروباص أو مندوبى مبيعات.

الدولة لا تريد مصارحة الناس بأنها غير قادرة على تطوير مناهج التعليم إلى الحد الذى يشجع ثقافة الحرية والتفرد والابتكار والفهم، لأن الدولة ببساطة لم تستطع بناء جيل حقيقى من المدرسين، يمكنهم نقل هذه المناهج ببراعة إلى عقول الطلاب. المدرسون لديهم استعداد بلا نهاية للحرب من أجل الكادر، لا من أجل المناهج، ولدى بعضهم الكثير من الحيل ليجعل من المدرسة جحيما مقيما، ومن حجرة الدروس الخصوصية منتجعا لبيع الوهم للطلاب من أجل الملايين الحرام من عرق الآباء والأمهات، وفى الوقت نفسه تتواطأ الدولة مرة أخرى على أحلام الناس، حين تفتح البوابات الساحرة للحلم من جديد بالجامعات الخاصة والمعاهد العليا الهادفة للربح، ليتم تقديم العائلات المصرية فداء لأصحاب المطامع وضحية للقرارات المغلوطة.

الدولة ومنظومتها التعليمية بلا مناهج تشجع على الفهم، وبلا مدرسين قادرين على نقل الفهم للطلاب، وبلا سوق عمل قادرة على استيعاب خريجى الجامعات، وبلا خطة تسيطر على مئات الآلاف من العقول التى تنتجها الجامعات الخاصة وتلقى بها فى سوق لا تعترف بالشهادات والخبرات، بل ليس فيها من الأساس مكان لحملة هذه المؤهلات العليا أو الشهادات الجامعية الموثقة، لا أحد هنا يفكر فى ربط التعليم بسوق العمل، ولا أحد هنا يقدم مقترحا لتشجيع الدراسات الصناعية والحرفية، ولا أحد هنا يعلن على الناس أن كل ما تلقيه طاحونة التعليم الثانوى والجامعى سنويا هو كالزّبد يذهب جفاء، وليس فيه ما ينفع الناس ليمكث فى الأرض.

البكاء الاستراتيجى فى الثانوية العامة لا يرتبط إذن بأسئلة للفهم أو أسئلة للحفظ، لكنه بكاء على مستقبل لا يراه أحد، وعلى مسارات غامضة لا تقوى هذه العائلات البسيطة على فك شفراتها المعقدة، البكاء ليس على سؤال من خارج المنهج، بل على شعب صار بلا منهج أصلا.














مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة