عادة يبدأ التحليل السياسى الخاص بالموقف الإيرانى الذى اعتدناه بسلسلة من الجمل المقعرة والنداءات الحنجورية وأساليب المراهقة الثورية، وعادة أيضا ما تقابل كتاباتى بالهجوم الشديد على شخصى وآرائى التى هى قيد الاختلاف أو الاتفاق، ولكن لا أستطيع أن أتوقف أمام هذا السيل الهائل من تداعيات ونتائج العلاقة الإيرانية الأمريكية.
ففى يوم الخميس الموافق 24 يونيو 2010 أعلنت إيران أنها أنتجت سبعة عشر كيلو جراما من اليورانيوم المخصب بنسبة عشرين فى المائة، وذلك كما يبدو فى ظاهرة تحد جديد لمحاولات الأمم المتحدة لوقف البرنامج النووى الإيرانى، وهو ما قد يفسره البعض بتهور إيرانى معهود خاصة بعد إقرار العقوبات الدولية، إلا أننى أرى فى هذا موقفا مغايرا على طول الخط، بل ويتعدى ذلك للتأكيد على وجود علاقة إيرانية وثيقة بين الولايات المتحدة وإيران، فليس من الحصافة السياسية أن تخرج إيران بهذا التصريح، خاصة بعد ما صرح به فيليب كراولى المتحدث باسم الخارجية "إن قيام إيران بهذه الخطوة أمر مقلق، لأنها تدل على ممارساتها الطويلة فى مضايقة المفتشين"، وذلك تعقيبا على منع اثنين من المفتشين النوويين الدوليين من دخول إيران.
فظاهر الموقف هو التحدى والاستفزاز، ولكن قلب الموقف هو سلسلة من الدفع الإيرانى، لكى تكون سلما يصعد عليه الثعبان الأمريكى للسيطرة الكاملة علة مجريات الساحة الدولية والعربية!!
فمن الملاحظ فى الفترة الأخيرة أن إسرائيل أصبحت هى المسيطر الفعلى على الساحة السياسية العربية ضاربة بأمريكا عرض الحائط، ومتحدية لقراراتها خاصة فيما يتعلق بعملية السلام، ودعونا نعود إلى حرب أكتوبر 1973 وقبول أمريكا بمد الجسر الجوى بينها وبين إسرائيل على خلفية الدعم، أو كما يصر البعض ضغوط اللوبى الصهيونى، وهو أمر مضحك أن نجد الكثير من المحللين مصرين على هذه النظرية الشديدة البدائية، فالقارئ لأوراق الحرب التى كتبت بيد جنرالات إسرائيل وأمريكا يجد الحقيقة أن إسرائيل قامت بتهديد أمريكا بأنها ستبدأ بضربة نووية تجاه القوات العربية وهو ما لا تستطيع أمريكا تحمله.. خاصة مع وجود الاتحاد السوفيتى صاحب الموقف الداعم للعرب آنذاك حتى فى ظل علاقة غير جيدة مع السادات، وهو ما قد يؤدى إلى ما تخشاه أمريكا من تفجر حرب نووية فى المنطقة أو قل العالم إن شئت فكان هذا الجسر.
دولة المؤسسات فى تاريخها السياسى الذى لا يتعدى 250 عاما لا تعترف بالنسيان ولا تقبل إملاء الشروط، فكما فلحت فى أبطال مفعول سلاح البترول العربى كان لزاما عليها أن تبطل مفعول استخدام السلاح النووى الإسرائيلى عليها كوسيلة ضغط سياسى، ومن هنا كان تدمير العراق، وبدأ تبنى إيران كذراع لها فى المنطقة وليس عميلا، فما تقوم به أمريكا الآن هو محاولة لخلق توازن نووى فى المنطقة أمام القوة النووية الإسرائيلية من جهة ونظرا لموقع إيران الجغرافى والإسراتيجى على الخليج العربى تصبح هى بوابة آسيا الوسطى وصاحبة ثقل نووى أمام باكستان والهند النوويتين من جهة أخرى.
دعونا نلاحظ مجموعة من المتناقضات التى حدثت فى الساحة الدولية على خلفية العقوبات الدولية على إيران وتحديدا إقرار القرار 1929 الذى أجاز العقوبات الجديدة سنجده بأنه يلغى مفعول الاتفاق التركى الإيرانى البرازيلى بنقل كمية من اليورانيوم الإيرانى وتخصيبه فى الخارج، وهو ما كان من المفروض أن يبهج المجتمع الدولى القلق من البرنامج النووى الإيرانى الذى عرضته إيران فى 17 مايو على القوى الكبرى، فى إطار اتفاق مع البرازيل وتركيا، مبادلة اليورانيوم الضعيف التخصيب (3.5%)على الأراضى التركية بـ120 كلغ من الوقود المخصب بنسبة 20% مخصص لمفاعل الأبحاث الطبية فى طهران، ومن هنا نذهب إلى حد القول أن العقوبات الجديدة قد تكون خطأ سيندم عليه الرئيس الأمريكى باراك أوباما، لأنه يبدو وكأنه انسحب من خلف طاولة المفاوضات بعدما كان قد بذل أكبر جهد فى هذا المجال، وبعد أن توصلت تركيا والبرازيل إلى استدراج العروض الجدية ووضعها على الطاولة، وعلى صعيد آخر يعود رجل أمريكا فى الاتحاد الأوروبى نيكولا ساركوزى فى 19 يونيو ليؤكد لنظيره الروسى ديمترى مدفيديف عن استعداد فرنسا للبدء "بلا تأخير" فى مفاوضات مع إيران حول برنامجها النووى فى إطار الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على ما أعلنت الرئاسة الفرنسية. وأوضح مصدر فى الرئاسة الفرنسية للصحفيين أنه خلال مقابلة للرئيسين فى سان بطرسبورج، ذكر ساركوزى "بأننا تبنينا عقوبات جديدة ليس لمعاقبة إيران، بل لإقناع قادتها بالعودة الى طريق المفاوضات".
لكن بالتمعن فى الموقفين المعلنين لأمريكا وفرنسا وحجم التضاد بينهما سنكتشف حجم الخدمات التى قدماها لإيران، بل الهدية وهى أولا أن الرئيس الإيرانى "سيستمتع بطعمها"، لأنها ستسمح له بالظهور وكأنه يتحدى العالم وحيدا وينتصر، وثانيا لأن المعارضة الإيرانية وعلى رأسها زعيمها مير حسين موسوى توافق النظام فى مجال السياسة النووية على الرغم من معارضتها له فى السياسة الداخلية.
ثم ننظر إلى الموقف الروسى من هذا الوضع فنجد وزير الخارجية الروسية سيرجى لافروف يعلن أن العقوبات الجديدة التى فرضها مجلس الأمن الدولى على إيران لن تؤثر على صفقة صواريخ أرض جو من طراز إس - 300 المبرمة بين موسكو وطهران، كما يؤكد على أن روسيا لا تزال تجرى محادثات مع إيران لبناء مفاعلات نووية فى الجمهورية الإسلامية.
أما وزير الدفاع الأمريكى روبرت جيتس فى شهادته أمام مجلس الشيوخ فيرى أن إيران يمكنها مهاجمة أوروبا بعشرات أو مئات الصواريخ، على حد تعبيره، وأضاف أن ذلك التهديد أدى تغيير فورى فى نظام الدفاع الصاروخى الأمريكى حول دول حلف شمال الأطلسى (ناتو) فى أوروبا. وسيتضمن البرنامج الجديد قذائف اعتراض بحرية وأرضية بدلا من الأسلحة الضخمة المصممة للتصدى للصواريخ طويلة المدى. وقال غيتس إن النظام الجديد سيكون جاهزا بحلول 2020 حتى لو اعترضت روسيا عليه.
وعليه تصبح إيران هى اللاعب الأساسى فى الصراع السياسى العالمى، فشهادة جيتس وتهديده بتغيير النظام الدفاعى الصاروخى للناتو ليس إلا رسالة إلى روسيا المتطلعة وباقتدار لاستعادة إرثها من الاتحاد السوفيتى.
ويتضح لنا الآن كيفية الاسخدام الأمريكى لإيران كقوة رادعة وفزاعة للضغط السياسى الإسرائيلى على أمريكا وذريعة لزيادة تسليح الناتو فى وجه روسيا صاحبة الحائط الصاروخى المخيف.
وأخيرا أختم المقال بأننى لما بسمع تامر حسنى.. بحس إننى ينفع أكتب أغانى وأغنيها!!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة