رفض الناقد الكبير فاروق عبد القادر الرحيل عن عالمنا قبل أن يقدم كعادته فى معظم مقالاته درساً فى ضرورة استقلال واستغناء المثقف والمبدع فى بلاد العالم الثالث عن السلطة المانحة المتحكمة.
كان الراحل الكبير دائماً يفعل ذلك بصدق ووعى وتلقائية دون أن يفكر فى أن دروسه أو مواقفه قد يعتبرها البعض نوعاً من الثورية فى غير محلها ،أو يصنفها آخرون باعتبارها غباء سياسياً يكلف صاحبه ثمناً غالياً من المكاسب المادية والأدبية التى يتحكم فى مصادرها المسئول عن الثقافة
كما رفض الراحل منهج الوسطية المستمد من خبرات الفلاح المصرى مع الغزاة والمحتلين، المنهج الذى اعتمده مبدعون ونقاد كبار رأوا أن المثقف والمبدع ليس أمامه إلا أن يتعامل مع السلطة الثقافية والسياسية بشروطها حينا وبشروطه حيناً آخر، كأن ينفذ سياساتها جزئياً ويرفضها جزئياً أو ينفذ سياساتها حركياً وينتقدها إبداعياً ولو بصورة جذرية حادة، كما فعل عمنا الكبير نجيب محفوظ والكبار من النقاد والفنانين والمبدعين الذين تولوا مناصب رسمية ومهمات عمل قاسية واحتفظوا مع ذلك بضميرهم الإبداعى رائقاً حيناً، يقظاً حيناً آخر وكاشفاً حيناً ثالثاً!
فاروق عبد القادر فى جميع أعماله تقريباً بما فى ذلك درسه الأخير الذى قدمه لنا وهو فى غيبوبة الموت، كان يتبنى منهج المواجهة والقطيعة الحادة مع السلطة الثقافية، كان رومانسياً عنيفاً يعتقد إلى حد الإيمان بضرورة الإمساك بغنيمة البعد عن مصادر السلطة حتى يستطيع تقديم عمل يبقى، هذا "البعد عن السلطة" المنشود، هو ما مكنه من تجنب الكتابة عمن لا يؤمن بموهبتهم ، حتى لو كانوا من المشاهير وهو ما مكنه أيضاً من البحث عن القيم الجمالية لدى الأُصلاء حتى لو كانوا من المغمورين الذين لا يعرفهم أحد.
عندما كان فاروق عبد القادر غائباً فى مقدمات الموت، وضع القائمون على جوائز الدولة اسمه ،بناء على ترشيحات غير لائقة، ضمن قائمة جوائز التفوق المفترض أن تُمنح لشباب النقاء والمبدعين الذين أعطوا عطاء لافتاً مبشراً فى مجالهم، وتم التصويت على طريقة إبراء الذمة وذهبت الجائزة لعبد القادر وهو لم يطلبها أو يتقدم إليها أولاً ولم يكن فى وعيه عندما تم ترشيحه لها ثانيا، وأزعم أنه لو كان منتبهاً لما ُيراد له وهو غائب لأعلن رفضه لهذه الجائزة التى حشروه فيها حشراً وهى أقل من مجمل أعماله النقدية.
الدرس الأخير الذى قدمه فاروق عبد القادر لنا، هو اختبار قيمته ومكانته قياساً إلى جائزة لم يتقدم لها ولم يوافق على تلقيها ولم يتسلمها، فعندما أعلنت الجوائز قبل رحيله بيوم لم يتسن له أن يعلن موقفه الذى يعرفه حتماً كل من اقترب منه، لكن موقفه هذا أصبح معروفاً ومعلناً عند الذين يعرفون قيمة فاروق عبد القادر ومكانته واسهاماته فى النقد الروائى والمسرحى والترجمة.
رفض فاروق عبد القادر جائزة التفوق ميتاً مثلماً رفض نموذج اصطياد السلطة الثقافية للكتاب والمبدعين فى عالمنا العربى المتخلف، رفضه بصمته بعد أن ظل صوته عالياً طوال حياته برفض العلاقة المشوهة بين الثقافة كتابع والسياسة كمتبوع!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة