رحل الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر الشاعر الأكثر إدهاشاً وتجريباً فى الشعر المصرى الحديث، رحل الشاعر على فراشه، فى قريته "رملة الأنجب" مركز أشمون بمحافظة المنوفية، فى البقعة التى أحبها دوماً وتحدث عنها دوماً وتغنى بأسرارها منذ ديوانه الأول "الجوع والقمر" وحتى آخر أعماله الممتدة التى لم تر النور مكتملة "مسامرات للأولاد كى لا يناموا".
لم يلتفت عفيفى مطر لرجاءات محبيه وزملائه الشعراء الذين ناشدوه عدم الاستسلام لغيبوبة المرض، مثلما ابتسم فى وهن لمناشدتهم وزارة الثقافة أن تتكفل بعلاجه على نفقة الدولة، هو الشاعر الغريب الكبير منذ تفتحت موهبته فى أوائل الستينيات من القرن الماضى، فعرف أنه المعذب بموهبته وبأصالته وبسعيه للاستقلال، وقد كان له ما أراد من إبداع سامق وأصالة متحققة واستقلال غالٍ، وكان عليه أن يتحمل التعسف وقلة الذوق والتجاهل حتى فى محنة المرض.
عندما اختلف الشاب محمد عفيفى مطر جمالياً مع الراحل الكبير صلاح عبد الصبور فى الستينيات خرج عبد الصبور عن لياقته المشهود لها، وأقسم أنه "لن ينشر لعفيفى مطر ديواناً داخل مصر ولو على جثته"، وكان عبد الصبور ملء السمع والبصر والمتحكم فى النشر فى دولة شمولية مغلقة، فما كان من عفيفى مطر إلا أن تغرب هو وقصائده فى العواصم العربية من دمشق إلى بغداد إلى بيروت وطرابلس الغرب.
وعندما تجاهل النقاد تجربته المتفردة التى ناطحت تجربتى الشهيرين عبد الصبور وحجازى، لم يعبأ بالنقد ولا بالنقاد واستمر فى إخلاصه للشعر، فأعطاه الاختلاف والتجديد والإضافات المهمة التى مثلت بدايات لطرق عريضة معبدة أمام أجيال من الشعراء المصريين حتى غلبت تجربته الجمالية على معظم أبناء جيله، الذين أنكروه رغم تأثرهم به.
وعندما ضاقت به أرضه ووطنه وأغلقوا منبره الرائد "مجلة سنابل" التى كانت بوابته لاكتشاف الأصوات المجددة والأصلية فى الشعر العربى ثم ضيقوا عليه سبل العيش فاضطر للرحيل إلى العراق، وهناك أعطى مرحلة جديدة من الإبداع لعل علامتها المتميزة كانت ديوانه شديد الخصوصية والجمال "أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت"، حيث توسع فى نهجه الجمالى واللغوى الذى تختلط فيه طبقات اللغة ودلالاتها من عربية قرآنية ومعجم صوفى وإحالات فلسفية وإشارات عامية أصيلة ضارية فى قلب الفصاحة مع إنشاد المداحين والمغنيين الرعويين.
وعندما عاد إلى أهله وأرضه وانتفض معارضاً حرب الخليج الثانية أدخلته يد الله فى تجربة السجن وظلمة الاعتقال، فصهرته المحنة مثل المعدن النفيس ليخرج منها أصلب عوداً وأقدر على التعبير عن أزمة المبدع الذى تضيق أرضه برأيه وموقفه ومعتقده، رغم أنه بتعبير صلاح جاهين "لا ف إيده سيف ولا تحت منه فرس"، وحين سئل ذات مرة عن تجربة السجن أجاب بشموخ "أنا مثل نهر النيل مشتت فى الصحراء التى ألتم فيها نهراً يغوص فى لحم الأرض ببطء وباقتدار وبإصرار".
لم يكن عفيفى مطر ينتظر شيئاً من أحد، فرداً كان أم مؤسسة ثقافية، ورغم ذلك كان دائم القول "لم يأخذ أحد حقه مثلى ولم أظلم، ومن يستطيع أن يظلمنى؟ فليس لى شىء عند أحد ولا أحتاج شيئاً من أحد"، حتى على فراش مرضه الأخير، أمر أهله أن يحملوه إلى سريره ليموت فى هدوء على البقعة التى أحب دائما، دون انتظار لعلاج على نفقة الدولة يطالب به زملاؤه ومحبوه، أو مكرمة تأتيه من وزير أو غفير!
رحم الله الشاعر الكبير الذى لا يسعنى إلا أن أردد فى حضوره الذى اكتمل بموته أبيات أمل دنقل عند رحيل الشاعر محمود حسن إسماعيل:
"واحدٌ من جنودكَ يا أيها الشعرُ
كل الأحبةِ يرتحلونَ
فترحل شيئاً فشيئاً من العين ألفةُ هذا الوطنْ"
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة